قضايا ودراسات

الموصل بدون «الحدباء»

د. حسن مدن

نقاش عقيم وعبثي تصدفه على بعض مواقع التواصل الاجتماعي بعد قيام تنظيم «داعش» الإرهابي بتفجير المسجد النوري ومنارته الأثرية المعروفة باسم «الحدباء» في مدينة الموصل. ويدور النقاش حول التالي: أيكون الجامع ومنارته أهم وأغلى من أرواح عشرات آلاف البشر التي زهقت وتزهق بسبب وباء «داعش» الذي اجتاح العراق والمنطقة، لكي تقام على «الحدباء» مناحة لم ينل مثلها ضحايا التنظيم؟ ليس الأمر بهذه البساطة والفجاجة، أرواح البشر دائماً أغلى من الحجر، لكن الحجر الذي نحن بصدده في حال الجامع ومنارته يتصل بإبداع معماري فريد من نوعه أنتجته عبقرية البشر.
إنه رمز لتاريخ وذاكرة، وشاهد على ما للمدينة وللعراق كاملاً من عمق في الحضارة، وأصالة في الإبداع، وهي أمور يراد محوها من الذاكرة، ذاكرة العراق والعراقيين وذاكرتنا جميعاً، لغاية أبعد: محو الكيان الذي له كل هذه الذاكرة، أي العراق نفسه.
في المحصلة، فإن في منهج تنظيم بهمجية ووحشية «داعش» تتحد الغاية من قتل البشر والتمثيل بهم مع استهداف معالم ورموز الحضارة التي تمثلهم وتشكل لهم ذاكرة حية تتوارثها الأجيال. إنه الصراع المديد الذي نعرفه وعرفه العراق نفسه في مراحل من تاريخه بين التحضر والتوحش، وفي هذا فلا فارق، لا في الجوهر ولا في الوظيفة، بين ما اقترفته جحافل هولاكو حين استباحت حاضرة مثل بغداد، وألقت بما في مكتباتها من كنوز الثقافة والفكر وعصارات الأدمغة الإنسانية النابهة في النهر لتجرفها مياهه، ولتصطبغ مياهه بحبرها الأسود، وبين ما اقترفه «داعش» في الموصل نفسها بحرق محتويات مكتبة جامعتها، في نفس السياق الذي أدى بها إلى تدمير الجامع ومنارته.
قبل ثلاث سنوات وقف على منبر الجامع النوري زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي ليعلن، في إطلالته العلنية الوحيدة، عن قيام دولته، في واحدة من أكثر لحظات التاريخ عبثية، واصلة وفاصلة في آن، واصلة لما قبلها منذ أن أستبيح العراق من المحتلين الأمريكان وما تلا ذلك من ارتدادات، وفاصلة لأنها عنت بدء مرحلة جديدة أكثر دموية.
ما زال من المبكر القول بأننا بلغنا نهاية الفصل الأخير من هذه المرحلة السوداء، ولكن المؤكد أن الدوائر باتت تضيق أكثر فأكثر على «داعش»، بعد أن بلغ صانعوه الغاية منه، هو الذي ليس سوى قاطرة لما بعده، وقد يكون أدهى وأمر، ولم يشأ «داعش» أن تأزف قريباً اللحظة التي يخرج فيها الجامع من تحت قبضته، بما يسقط الرمزية التي مثّلها إعلان دولته منه، فآثر أن يدمره، ويحوّله إلى ركام، هو ومنارته التي ظلت، رغم انحنائها، شامخة نحو تسعة قرون متواصلة.

madanbahrain@gmail.comOriginal Article

زر الذهاب إلى الأعلى