قضايا ودراسات

الموصل مدينة العذابات الكبرى

د. ناصر زيدان
أطلقت القبائل العربية على مدينة الموصل هذا الاسم منذ ما قبل الميلاد؛ لأنها توصل بين منطقة الجزيرة في شمال سوريا، وبلاد العراق، ولأنها تربط بين ضفتي نهر دجلة. لم تنجح عمليات تتريك المدينة عبر محاولاتٍ كثيرة، آخرها في استفتاء العام 1921. ولم يتمكن الفرس من احتواء المدينة عبر تاريخ تدخلاتهم الطويل، أما الرومان الذين تعاملوا معها كونها ذات أُصول آشورية قديمة؛ فقد تفاجأوا عندما ساعدت قبائل المدينة العربية قوات الفتح العربي – الإسلامي للمدينة في العام 637 م ضدهم. رغم كل ذلك بقيت الموصل عربية.
احتلال المغول للمدينة في العام 1258 أحدث خراباً ودماراً، ولكنه لم يُغير معالم المدينة التاريخية كما حصل في نهاية احتلال «داعش» في 21/‏6/‏2017، حيث فجرت مجموعاتها الإرهابية أهم معالم الحضارة العربية والإسلامية في المدينة، أي الجامع النوري الكبير ومئذنته التاريخية «الحدباء» اللذيّن بناهما القائد الإسلامي نور الدين زنكي، بين عامي 1171 و1173م.
من الجامع النوري الكبير ألقى زعيم «داعش»، أبوبكر البغدادي، خطبته اليتيمة في 29/‏6/‏2014، مُعلناً قيام «دولة الخلافة» المزعومة واستمرَّت سطوة «داعش» على المدينة والجوار، ثلاث سنوات، في حقبة غامضة من التاريخ، تداخلت فيها الوقائع الميدانية الغريبة مع التدخُلات الإقليمية والدولية التي كانت محل جدلٍ واسع. ف «داعش» الإرهابية ترعرعت في كنف قوى، كان يمكن لها أن تمنعها من ذلك، في الحد الأدنى، لكن وثائق عديدة تمَّ كشفها مؤخراً؛ أشارت إلى ضلوع بعض الأنظمة الإقليمية والمحلية، وأجهزة مخابرات دولية، لاسيما الموساد، في تقديم التسهيلات والتمويل ل «داعش» منذ نشأتها.
في ذكرى مرور ثلاث سنوات على قيام «داعش» وإعلانها الموصل عاصمةً لها؛ أعلن رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، في 29/‏6/‏2017 تحرير المدينة وجوارها، والقضاء نهائياً على دولة «داعش» المزعومة بجهد وتضحيات القوات العراقية المسلحة.
دفعت الموصل ثمناً باهظاً منذ الدخول الأمريكي إلى العراق في العام 2003. فقد تضرر أبناؤها وممتلكاتهم في عملية إخراج الميليشيات الكردية التي تغلغلت في أحيائها بين عامي 2003 و2007، وقاست العذابات الجمَّة إبان الصراع الذي دار داخل مؤسسات السلطة في بغداد بين عامي 2007 و2013، وكان لضعف الحكومة وسياسة الانحياز الفئوي التي اعتمدها رئيس الوزراء السابق، نوري المالكي؛ دور في تراجع مستوى الثقة بالحكومة المركزية عند أغلبية أبناء الموصل. وهذا الأمر ساعد المجموعات الإرهابية على التغلغُل في أحياء المدينة، والتي دغدغت مشاعر بعض السكان الذين كانوا يعانون سياسة التمييز المذهبية التي اعتمدتها بعض الحكومات المتعاقبة في بغداد.
طريقة سيطرة «داعش» على المدينة في يونيو/‏حزيران 2014؛ كانت هي ذاتها محل تساؤل، أو استغراب، لأنها حصلت بسهولة غير متوقعة.
مهما يكُن من أمر؛ فإن الموصل تحررت، و«داعش» انهارت، أو تكاد، بعد أن أصبحت قوات سوريا الديمقراطية (ذات الأغلبية الكردية) قاب قوسين أو أدنى من تحرير مدينة الرقة السورية العاصمة الثانية ل «داعش»، وبعد أن استطاعت القوات السورية تحرير مناطق شاسعة من البادية السورية باتجاه الحدود العراقية.
ما أحدثه «داعش» في الموصل والرقة؛ لا يمكن الاستخفاف به. فإضافة إلى تدمير المعالم الدينية الإسلامية والمسيحية؛ ارتكبت ميليشيات «داعش» الإرهابية مجزرة مُروعة بحق الإنسانية جمعاء، عندما أقدمت على تدمير الآثار التاريخية النادرة في الموصل ونمرود العراقيتين، وفي تدمر السورية. وخلفت ارتكابات «داعش» مآسي إنسانية لا تُنسى في سنجار العراقية معقل الإيزيديين، وهؤلاء ما زال قسم كبير من نسائهم وأطفالهم سبايا لدى «داعش».
والموصل العربية؛ كانت مكاناً لتجاذبات دولية، ومحلاً لأطماع الدول المجاورة عبر التاريخ. فقد حاول الفرس استمالة سكانها إلى الفارسية؛ ولم يتمكنوا من ذلك. ومارس قادة إسطنبول سياسة التتريك عبر قرون، منذ زمن احتلالهم للبلاد، ولم ينجحوا في تبديل معالم المدينة العربية.
مستقبل التحولات التي تحصل في بلاد الشام غير واضحة المعالم حتى الآن، والموصل كانت مدينة العذابات الكبرى، ولكنها كانت نقطة الارتكاز في سياسة المنطقة برمتها، وتقاطعاً دولياً مهماً بين مشاريع سياسة الدول الكبرى المجاورة والبعيدة، وممراً إلزامياً لنجاحات التعاون، أو للإخفاقات في شمال الهلال الخصيب العربي.Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى