جديد الكتب

الهند الشرقية «الجد الأعلى » للشركات عبر الوطنية

يعرض هذا الكتاب لأهم النواتج التي أفضت إليها ظاهرة العولمة، وهو ما يتمثل في نشوء وازدهار وسطوة الشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات عبر الوطنية وما في حكمها من احتكارات اقتصادية – إنتاجية – تجارية، أصبحت تهيمن بصورة أو بأخرى على مقاليد الواقع الاقتصادي على مستوى العالم، ثم باتت تتعدى هذا المجال الاقتصادي، المالي إلى حيث تباشر نمطاً مستتراً من النفوذ والسلطة، ولدرجة يصفها الكتاب بأنها السلطة غير المباشرة أو القابعة في الكواليس بحيث تمارسها تلك الاحتكارات العاتية من خلال ما يمكنها تأسيسه من تحالفات مع الحكومات في هذا البلد أو ذاك.

وفيما يربط الكتاب هذا النمط من أنماط العلاقة بين تلك الاحتكارات ونظم الحكم، فقد حرصت المؤلفة أيضاً على ربط هذه الأنماط بتيار النيوليبرالية الذي ساد في العقود الختامية من القرن الماضي وأفضى إلى ظاهرة، آفة، الرأسمالية المتوحشة. وهنا يحق للمفكر المعروف نعوم تشومسكي أن يحمد جهد المؤلفة واصفاً إياه بأنه محاولة ثاقبة للنفاذ إلى جوهر عمليات صنع القرار في العالم، حيث يفضي بنا إلى فهم أعمق لما يدور، وهو ما يصبّ في مصلحة أولئك الذين يريدون أن يأخذوا مصائرهم في أياديهم .

 

القابضون على السلطة.. من وراء ست

تأليف: سوزان جورج

عرض ومناقشة: محمد الخولي

الناشر: دار بوليتي برس، لندن، 2016

عدد الصفحات: 208 صفحات

 

 

هو جيل كامل، قوامه نحو 30 سنة من آخر حقبة في القرن العشرين. بدأت تلك السنوات في عقد الستينيات وشارف ختامها عقد التسعينيات من القرن المذكور: هي السنوات التي شهدت أكبر تطورات جذرية حاسمة في آليات الحركة في العالم وفي سلوكيات البشر، بل وفي متغيرات العلم والفكر والثقافة في طول عالمنا وعرضه على السواء.

في الستينيات تسامع الناس بالعبارة التي طالما رددناها وسجلناها مأثورةً عن نابغة الإعلام المعاصر وهو المفكر الكندي مارشال ماكلوهان (1911، 1980) وقال فيها كلمته المأثورة: العالم في طريقه إلى أن يصبح قرية عالمية.

ومع العقد السبعيني بدأ التعامل مع العقل الإلكتروني يكتسب المزيد من النضج، ويتسم بالمزيد من الأداء العملي كي يخرج الحاسوب من أروقة المعامل البحثية والمختبرات العلمية إلى حيث تتناوله أيادي الأفراد العاديين عبر قارات عالمنا المختلفة، وصولاً إلى عقد الثمانينيات ثم فاتح التسعينيات، الحقبة التي أثمرت علماً وفناً وتخصصاً أكثر من واعد ما لبث عالمنا أن أطلق عليه الوصف السائغ التالي: تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (آي.تي. تكنولوجي).

اطلالة العولمة

هي الحقبة نفسها التي شهدت إبداعات مجموعة من النوابغ الذين شغفوا بقدرات الحاسوب، واستثمروا فيها مواهبهم الفائقة وقدراتهم غير الاعتيادية وغير المسبوقة.

حلّت آثارها على البشرية حيث انطوت أساساً على جانبها الإيجابي، متمثلا في إمكانية التواصل اللحظي بين أوصال الكرة الأرضية عبر الفيافي والبوادي ومع اجتياز البحار والمحيطات وفي ظل قدرات عجيبة شيّدت جسور التواصل فيما بين أحدث الحواضر وأقدم الأرياف، وكذلك بين أغنى الأقطار في شمال المعمورة وأفقر البلدان والشعوب في أقصى جنوبها.

لكن، وكما هو العهد بأي ظاهرة مستجدة في حياة البشر، كان لا بد وأن تصدق القوانين المنطبقة على الفعل والتطور الاجتماعي وتجملها القاعدة المعروفة التالية: جدل الظاهرة.

نعم، جاءت العولمة بإيجابيات التواصل اللحظي والكفء والشامل بقدر ما جاءت أيضاً حسب قوانين الجدل إياها، وقد انطوت على الجانب الآخر ومازال جانباً بالغ السلبية إلى حد ليس بالقليل: كيف لا وقد أفضت العولمة إلى وقوع مقاليد الاقتصاد الدولي بكل تشابكاته ومساراته وتعقيداته في أيدي، بالأدق في قبضة، فصيل كان مستجداً بدوره من مؤسسات العمل الاقتصادي والإنتاجي التي تحمل في زماننا الراهن أسماءها المعروفة: الشركات عبر الوطنية.

الجوهر هو الاحتكار

وأياً كانت التسمية أو الصياغة، فالجوهر المشترك بين كل هذه الكائنات المستجدة من إفراز ظاهرة العولمة إنما تلخصه كلمة واحدة هي: الاحتكار.

أكثر من هذا، فهذه الاحتكارات العملاقة يمكن تقصّي جذورها في تاريخ المؤسسات التي سبقت في مراحل مضت من تاريخ عالمنا الحديث، وجمعت أيامها بين ممارسة نشاط الاقتصاد مع الإمساك بمقاليد السلطة بصورة غير مباشرة أو سافرة في بعض الأحيان.

هنا نستطيع أن نحكي عن «الجد الأعلى» لاحتكارات زماننا الراهن ممثلاً في المؤسسة البريطانية التي عرفها التاريخ الحديث باسمها المعروف: شركة الهند الشرقية.

وحين اقتحمت الشركة الإنجليزية ميدان الحكم والسياسة، كان طبيعياً أن تحاكيها شركة الهند الشرقية الفرنسية، وشركة الهند الشرقية الهولندية، وبهذه المؤسسات الاحتكارية الثلاث اكتملت إرهاصات موجة المد الامبريالي في أنحاء القارة الآسيوية، وكأنما لتشكل درساً مستفاداً لنظيرتها من الاحتكارات الاقتصادية الرهيبة، التي مازالت تفرض سيطرتها على مقاليد عالمنا حتى كتابة هذه السطور.

هذه الاحتكارات العملاقة التي نعايشها في الفترة الراهنة هي محور مقولات الكتاب الذي نعايشه في هذه السطور.

والكتاب يحمل عنواناً من شقين، وكل منهما يكمّل الآخر وبحيث لا نخطئ – كقارئين، معنى الدلالة التي تقصد إليها مؤلفة هذا الكتاب:

الشق الأول من العنوان يمكن ترجمته كما يلي: السادة (الحاكمون) في الظل (يعني من وراء الستار) أما الشق الثاني فيقول بالتالي: كيف تقبض الشركات العالمية على مقاليد السلطة.

الحكم من وراء الستار

والمعنى البديهي الذي تقصد إليه المؤلفة منذ الوهلة الأولى يمكن تلخيصه كما يلي: إن الشركات، الاحتكارات العالمية، سواء رفعت لافتات المؤسسات المتعددة الجنسيات أو وصفتها دعاياتها بأنها عابرة للقارات أو مجتازة لحدود الأقطار والأمصار- او “عبر وطنية” كما أصبحت تعرف في أدبيات الأمم المتحدة- هذه المؤسسات، تراها المؤلفة كالقوى الحاكمة أو المتحكمة لكن من وراء ستار. ومن ثم تستخدم لوصفها مصطلح الحاكم – الظل أو المتحكم، الشبح: إنها لا تظهر مباشرة على مسارح الأحداث، وربما تعمد إلى التواري في الزوايا والأركان، لكنها لا تتورع عن ممارسة نفوذها الاقتصادي، وهو النفوذ – الصولجان المؤثر، بحكم التعريف وبحكم طبائع الأمور في حياة الأمم ومصائر الشعوب والأفراد على السواء، حيث تتحكم في أسعار العملات العالمية وفي مسارات ومآلات التجارة الدولية.

كتابنا يتألف من 5 فصول تسبقها مقدمة وتلحقها خاتمة: تطرح الفصول الأولى مصطلحاً مستجداً وطريفاً حين تصوغه المؤلفة في العبارة التالية: ميجا لوبي.

وبديهي أن اللوبي على نحو ما يعرف به المصطلح في دوائر الحكم والسياسة الأميركية لايزال مرادفاً للجهود المعلنة والمستترة، الظاهرة والخفية التي تبذلها جماعات الضغط ومنها قوى وعناصر احترافية ومدفوعة الأجر من أجل الترويج لفكرة هنا أو تبغيض أطروحة هناك، وخاصة بين صفوف صانعي القرار أو راسمي السياسات في دوائر الكونغرس بالعاصمة الأميركية واشنطن.

لكن ها هي الظاهرة وقد تطورت وتضخمت بل واستفحلت، كما ترى مؤلفة هذا الكتاب، إلى أن أصبحت من الضخامة والاستشراء، ومن ثم قدرة التأثير وفعالية النفوذ، إلى حد أن أصبحت ميجا – لوبي يمارس منطقياً سوبر- تأثير، وبحيث يمكن لهذا التأثير البالغ أن يصوغ الاتفاقات الاقتصادية والمعاهدات التجارية بما يتفق مع مصالح الشركات عبر الوطنية على نحو ما يقول به الفصل الثاني من كتابنا، الذي لا يلبث أن يحذر في فصله الثالث من نتائج التحالفات التي تربط بين تلك الاحتكارات العملاقة على المستوى الدولي، وهي نتائج لا تتم لصالح الشعوب وأفرادها العاديين بطبيعة الأحوال.

النيوليبرالية والرأسمالية المتوحشة

تتوقف طروحات كتابنا عند ما تصفه المؤلفة بأنه أيديولوجية الأنانية ودوافع الجشع وسلوكيات القسوة التي لا تبالي بأي آلام أو معاناة يمكن أن تلحق بالأفراد والشعوب. وهي تربط بين هذه المستجدات التي جاءت بها ظاهرة الشركات العالمية وما في حكمها من مؤسسات وبين تيار الليبرالية الجديدة (النيوليبرالية) الذي اجتاح أنظمة وأفكاراً وأقطاراً في الغرب الأوروبي والولايات المتحدة (المحافظون الجدد مثالاً) ولدرجة أن وجد من المحللين المنصفين من يطلق عليه الوصف الشائع إياه: الرأسمالية.. المتوحشة.

والحاصل أن من أهم مزايا الكتاب ما يتمثل في التحذير الذي لا تفتأ المؤلفة توجّهه عبر الفصول والصفحات، ومؤداه رفض الصلات التي يمكن أن تقوم بين دوائر الحكم في أي دولة وبين القائمين على أمر الاحتكارات الاقتصادية العالمية، التي تمثلها تلك الكيانات العملاقة من نوعية الشركات المتعددة الجنسيات أو الشركات الدولية عبر الوطنية.

بل تذهب المؤلفة إلى التحذير مما سبق وأن أقدمت عليه بعض تلك المؤسسات الاحتكارية المهيمنة من ادعاء الحق في إنشاء محاكم خاصة يمكن أن تقاضي أمامها هذه الحكومة الوطنية أو تلك بدعوى أن الحكومة المذكورة أصدرت قوانين أدت إلى الإضرار بأرباح الشركة العالمية المعنية في الحاضر أو في المستقبل.

القائمون على أمر تلك المؤسسات تصفهم المؤلفة بأنهم النخبة المنتقاة، وهذه الصفوة لا تريد بالطبع أن تحكم بشكل مباشر، ولكن أفرادها يعملون دوماً من وراء ستار، وفي غياهب هذه الكواليس – توضح المؤلفة عند نهايات الكتاب – فهم يوجهون مسار التخطيط ويرسمون صياغات لعبة قواعد العلاقات الدولية ومعاييرها، بل وقد يشاركون، من الكواليس أيضاً، في لعبة الضغوط في تشكيل وتكليف الحكومات، حيث لا يقصدون سوى هدف وحيد تلخصه كلمة وحيدة هي: الربح.

الشركات.. سلطة غير شرعية

تحرص مؤلفة الكتاب على تناول مدى تأثير الشركات “عبر الوطنية” وما في حكمها على المنظومة الدولية للأمم المتحدة، فضلاً عن التطرق إلى مدى تأثير منظومة دافوس وفعالياتها ومؤتمراتها المعروفة في هذا المضمار.

على كل حال لا تتردد مؤلفة هذا الكتاب في تفنيد طبيعة النفوذ الذي ما برحت تتمتع به الشركات الدولية عابرة الحدود وهي تضفي على هذا النفوذ الوصف التالي: السلطة غير الشرعية.

ثم تبادر بتبرير هذا الغياب للشرعية على أساس أن تلك الاحتكارات الدولية -العولمية الغلوبالية إن شئت- إنما يقوم على أمر تأسيسها وإداراتها وتوسيع أنشطتها وطبعاً جنْي أرباحها عناصر تتوخى الارتباط بسلطات الحكم عبر الأقطار والقارات، ثم إنها بداهة عناصر غير منتخبة، بل هي تفتقر إلى تاريخ، أي تاريخ يربطها بالمواقع التي تعمل فيها وتجمع من مرافقها واقتصاداتها المليارات من الأرباح المتراكمة عبر السنين.

وهي لا تعرف هدفاً سوى الربح، والربح فقط دون إيلاء أي اعتبار لا للتحول الديمقراطي ولا المشاركة الشعبية ولا المصالح الوطنية ولا خطط التنمية، ولا رفاه البشر، ولا حتى حفظ البيئة، وصون الموارد ولا جودة نوعية الحياة ولا تأكيد مشروعيات الحكم أو الإدارة السياسية، ناهيك بطبيعة الحال عن افتقارها لأي حرص تصدر عنه تلك المؤسسات المتعددة الجنسيات، وقد تجسده نزعات إيجابية نحو دعم الثقافة الوطنية المستنيرة أو تعزيز الوعي لدى دوائر الحكم وجماهير الناس بأهمية التعليم والبحث العلمي وكل ما يمكن أن يدفع مسيرة البشر إلى الأمام.

أساليب ذكية

ثم تحسن المؤلفة صنعاً حين تفصّل الحديث عن هذا التحذير، موضحة أن الكيانات الاحتكارية لها أساليبها الحثيثة والذكية أيضاً في التدخل بكل نعومة ودهاء لدى الحكومات بغية التأثير على ما تتخذه دوائر الحكم المختصة في هذا البلد أو ذاك من قرارات، وما ترسمه من سياسات تتعلق مثلاً بقوانين العمل أو بجوانب التمويل أو بنظم الضمان الاجتماعي أو الأمن الصناعي أو بتشريعات الضرائب أو بلوائح الاستثمار، فضلاً عن الارتباطات التي قد تجمع بين نظام الحكم في هذا البلد أو ذاك وبين دوائر ومصالح التجارة الدولية.

المؤلف

سوزان جورج أستاذة متمرسة في علم وبحوث السياسة. حصلت على أكثر من دكتوراه فخرية سواء من جامعة نيوكاسل في إنجلترا أو جامعة التعليم الوطني في إسبانيا، إلى جانب جائزة أستاذ العلم الممتاز من رابطة الدراسات الدولية.

وقد أصدرت العديد من الكتب والدراسات التي ترجمت من الإنجليزية إلى لغات عالمية عديدة، وهي تحرص على طرح آرائها وأفكارها بالنسبة إلى دور وسطوة الاحتكارات الدولية من خلال ما تدلي به من أحاديث في سائر أجهزة الإعلام.

زر الذهاب إلى الأعلى