انتصار المهزوم
وضعت عنوان «انتصار المهزوم».. لهذه المقالة قبل الشروع في كتابتها، ولكن إحساساً غامضاً جعلني أستخدم «جوجل» فيما إذا كان العنوان مكرراً أو مستعملاً من جانب كاتب آخر، وتبين ما يلي: إن الكثير من الكتّاب العرب وضعوا «انتصار المهزوم» عنواناً لمقالاتهم، وإن الكثير من المهزومين قد انتصروا.. وغالبيتهم انتصروا على شعوبهم: «نيرون».. «فرانكو» وإن المهزوم يتباهى بالنصر وكأنه هو الذي صنعه؛ بل تحل، حلولاً غريباً، شخصية البطل في شخصية المهزوم المنتصر، ثم لا يكف هذا البطل المهزوم عن التنظير لمفهوم الانتصار ببلاغة متدفقة، وقد عرفنا فصلاً من هذه البلاغة وهي بالطبع بلاغة البطل ذي الصفتين المتناقضتين: «..منتصر ومهزوم..»، والبطل لا يشعر مطلقاً بهذا التناقض، أو أنه يتجاهله أو يتجاوزه أو يعمل على تدويره كأن يصبح التناقض.. قناعة.
يُقنع المهزوم نفسه وأهله وأقاربه وحاشيته ومستشاريه بأنه منتصر؛ بل أكثر من ذلك يقنعهم هو بأنهم كلهم منتصرون أحياناً، يشعر «بطلنا» بوخزة ضمير عقلانية نوعاً ما؛ إذْ عندما يضع وجهه في وجه مرآة.. تقول له المرايا كلها المعلقة في بيته إن الذي صنع الانتصار هم أناس آخرون ليسوا من أهل الجحيم، فالوجوديون يقولون إن «الآخر» هو الجحيم، والآخر الذي صنع الانتصار للبطل المهزوم جاء من جحيم آخر.. لقد قطع آلاف الكيلومترات واجتاز الكثير من الحدود، واستخدم أطناناً وأطناناً من الوقود، لكي يصنع انتصاراً لبطل مهزوم.
هذا «الآخر» الحرّيف في صناعة الهزائم والانتصارات والبطولات لم يفعل ذلك سُدى، ولم ينفق بسخاء من أجل «عيون» البطل.. لا.. لهذا الآخر استحقاقات، وحصص، وله شيء من خابية الحنطة والزبيب والقمح وحتى له حصة من الورد كي يتقبل هذا «الآخر» فكرة أن يخلع معطفه ويتخلى عنه تماماً وهو يطرحه على أكتاف هذا البطل المزيف.
في التاريخ شواهد كثيرة على منتصرين مهزومين، وهناك شواهد أكثر على آخرين يصنعون أبطالاً.. والآخر الذي يصنع بطلاً غواية فنية في الواقع وأقرب شبه لهذه الحالة الكونية هي حالة النحات الذي يصنع تمثالاً..
النحات بإزميله وطينه وفخاره ونحاسه، والتمثال بخنوعه وسكوته وطاعته. تمثال عبد يتحكم به نحات سيّد، وكلها صناعة أو كلها مقايضة.. أنت اصنع لي بطولة، وأنا أصنع لك سيادة.. اصنع لي معطفاً، وافتح أنا لك خوابي الزيت والماء، اصنع لي تمثالاً، وأنا أسيّدك على كل عبيدي.
..الآن.. عرفت لماذا كتبت هذه المقالة في أقل من عشر دقائق؛ إذ أخشى أن أكون بطلاً أو تمثالاً، أخشى أن أكون مهزوماً منتصراً على شعبي.. وشعبي.. هو هذه الكلمات..
يوسف أبولوز
y.abulouz@gmail.com