قضايا ودراسات

بكائيات حزيران لا تليق بالعرب

فيصل جلول
في الذكرى الخمسين لهزيمة حزيران/ يونيو عام 1967 تصدرت البكائيات العربية المناسبة مجدداً، وكأن الهزيمة وقعت أمس. وعاد مع الذكرى أسلوب النقاش نفسه تقريباً، عبر طرح فرضيات واحتمالات حول هل كان ينبغي تفادي الحرب؟ أو كان يمكن الصمود في الحرب لو أقال جمال عبد الناصر المشير عبد الحكيم عامر؟ أو الجزم بأنه ما كان بوسع العرب الانتصار في هذه الحرب، بسبب التفوق التكنولوجي «الإسرائيلي» والتخلف العربي؟ أو القول إن ما وقع في حزيران/ يونيو المذكور أكبر من نكسة بل نكبة وهزيمة ساحقة؟ والاستنتاج بأنه لا يمكن الانتصار على «إسرائيل» إلا إذا صار العرب مثلها، أي في المستوى الحضاري والتكنولوجي نفسه. والحكم أيضاً بأن «إسرائيل» يؤيدها العالم، ولا بد من العمل على فضح التواطؤ العالمي مع الصهاينة أمام الشعوب الغربية التي ستتعاطف مع القضية الفلسطينية ومن بعد ستسهم في تحرير فلسطين. وأخيراً يردد البعض أنه لولا الاستبداد لما وقعت هزيمة 1967.. الخ.
وعادت مع الهزيمة أيضاً التفسيرات نفسها التي تربط حركات العالم العربي وأحداثه بالنكسة، ومن بينها صعود التيار الإسلامي. وعاد تفضيل العهود السابقة على العهد الناصري والجمهوري في الكثير من الدول العربية، وكأن فلسطين لم تسقط في العهود السابقة، وكأن حرب العام 1948 لم تقع قبل ثورة يوليو.
إن مجموع هذه التفسيرات والاحتمالات المتصلة بالنكسة تفيد بأن ما وقع في حزيران/ يونيو هي حرب حضارية، وأن هزيمتنا فيها هي هزيمة حضارية. وقد دافع عن هذه الأطروحة طويلاً الدكتور الراحل صادق جلال العظم وآخرون؟ فهل كانت الهزيمة حضارية حقاً؟ وهل كانت نهائية لا انتصار بعدها على الاحتلال الصهيوني؟
الإجابة تبدأ من السؤال الأخير. لا توجد هزيمة أبدية ونهائية في التاريخ إلا في حالة واحدة، عندما يتمكن المنتصر من القضاء على المهزوم قضاء مبرماً، وتلك حال الحروب الأمريكية المتواصلة على الهنود الحمر التي انتهت إلى تدمير وجودهم الديموغرافي وحصرهم في جيتوات لا يلوون بعدها على شيء. ما عدا هذا النوع من المجازر الوحشية، لا شيء يسمّى هزيمة نهائية وأبدية، والدليل أن الاستعمار الفرنسي عاش في الجزائر 130 عاماً وانهار بعدها تحت ضربات المقاومة الجزائرية، وعاش الاستعمار البريطاني في جنوب اليمن 131 عاماً لينسحب البريطانيون من بعد بفعل المقاومة اليمنية.
وفي السياق نفسه يمكن القول إنه لا توجد هزيمة حضارية بل عسكرية فقط، ويؤشر على ذلك انتصار المقاومة الفيتنامية على الاستعمارين الفرنسي والأمريكي، رغم التفوق الحضاري والتكنولوجي بين الطرفين، فضلاً عن أن المستعمر الأمريكي استخدم الأسلحة الأكثر تطوراً وفتكاً ضد الفيتناميين، فيما هم كانوا يقاتلون بأسلحة شبه بدائية، لكنهم انتصروا بإرادتهم وتصميمهم.
ويمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك، وبالتالي القول إن السلاح النووي الأمريكي، لم يتمكن من إخضاع المقاومة الفيتنامية التي أصرّت على التخلص من الاحتلال مع علمها التام بأن أصحابه يملكون الأسلحة الفتاكة، وقد استخدموا جزءاً منها في إحراق الغابات وتلويثها بالأوبئة والجراثيم.
أما القول إن الهزيمة ما كان لها أن تقع لولا عبد الحكيم عامر، فهو قول ساذج، ذلك أن انتصار «إسرائيل» في الحرب كان ناجماً عن عنصر المفاجأة، وهو حاسم في مصير الحروب، وبالتالي ما كان لوجود عامر أو لغيابه أن يحدث فرقاً كبيراً طالما أن الأمر متصل بتدمير سلاح الجو العربي على الأرض، دون أن ينفي ذلك مسؤولية المشير المصري الراحل في إدارة الحرب السيئة واضطرابه، علماً أن مثل هذه الحالات يمكن أن تقع في كل جيوش العالم ولدى معظم القادة الكبار، بمن فيهم «الإسرائيليون» الذين شارفوا على الانهيار في حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 عندما انتقلت المفاجأة من المعسكر العربي إلى المعسكر الصهيوني.
يبقى القول إن موازين القوى الدولية والإقليمية كانت تميل بوضوح لصالح الدولة العبرية التي استفادت من الدعم الغربي المطلق، وكانت وما زالت جرائمها محمية لا تدان في المؤسسات الدولية، وتواصل الاستيطان والانتهاكات اليومية دون رادع، في حين يتعرّض الفلسطينيون لضغوط دولية دون الاعتراف بدولتهم وبحقوقهم.
إن ما وقع في حزيران/ يونيو ليس نهاية المطاف ويندرج ضمن قوانين الحرب التي تعطي الأفضلية للمبادر والمفاجئ، خصوصاً عندما يكون مزوداً بأدق التفاصيل عن جيوش الخصم ومنهجه العسكري.
إن هزيمة حزيران/ يونيو على الرغم من خطورتها وأثرها في تشكيل وعي النخب السياسية العربية بطريقة سلبية، ليست أخطر من هزيمة الفرنسيين في معركة سيدان عام 1870، حيث تمكن الألمان من أسر 150 ألف جندي فرنسي خلال يومين، ومعهم رئيس الدولة نابليون الثالث واحتلال فرنسا وإعلان الوحدة الألمانية من قصر فرساي، وعلى الرغم من هول الهزيمة وفداحتها تمكن الفرنسيون من بعد من استعادة زمام المبادرة وقهروا الألمان مرتين.
إن بكائيات حزيران هي التي تجعل العرب يهزمون مرة أو أكثر كل عام وفي كل وقت، خصوصاً أنهم برهنوا في مناسبات عدّة أن الجيش «الإسرائيلي» يمكن أن يقهر ويذل، فعلامَ تواصلون البكاء وتصبّون الماء في طاحونة عدوّكم.

baridchama@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى