قضايا ودراسات

تجميل السلوك الغريزي

عبد اللطيف الزبيدي
هذا مبحث جوهريّ، يكشف لنا المشكلة الكبرى في الممارسة السياسية.
لا يستقيم الفهم السليم، والتقدير القويم، من دون إدراك أسباب الانهيارات العربية بالجملة: لماذا تتتابع تداعيات الدومينو؟ ببساطة: السياسة جسم يحتاج إلى هيكل عظميّ وعمود فقريّ، لكي يكون له قوام وقيام، وإلاّ «كان صرحاً من خيال فهوى».
الخلل الأساسيّ في عمل دماغ النظام العربيّ، الخلط بين قضيتين محوريتين، والاستغناء بإحداهما عن الأخرى، وهنا كانت الكارثة المصيرية. الأولى هي أن السياسة وليدة الغريزة، توجهها الغرائز الطبيعية، فهي خاضعة في بنيانها لقانون الغاب. الأخلاق والقيم لا تلغي السلوك الغريزيّ، ولن تجد استثناء في التاريخ البشريّ. القضية الأخرى هي أن العلاقات البشرية بمرور الزمن تطورت، وصارت تحتاج إلى أدوات تنظيم وإدارة، تجسدت في القوانين والدساتير الداخلية، وفي تقنين العلاقات الدولية. معنى ذلك أن السلوك الغريزي، الذي لا يمكن تغييره كليّاً لكونه في الحمض النوويّ، اصطدم بالسلوك الغريزي المقابل، فاحتاج الجميع إلى تنظيم حركة المرور. تستطيع وضع السباع في أقفاص، لكنك لا تستطيع أن تمنعها من أن تكون لاحمة، ستذبح العاشبات بنفسك لإطعامها. تأمل طرائق حصول الأقوياء على مصادر الطاقة: احتيال، احتلال بقناع التحرير ونشر الديمقراطية. عندما يتعذّر السطو، تظهر مصطلحات الدبلوماسية كالتشارك والتقاسم وتوزيع الأدوار. المهم تأمين موارد حياة الغرائز، بالتكيف مع الظروف. هكذا الحال من البكتيريا إلى الإمبراطورية.
معضلة النظام العربيّ هي أنه نتاج قرون من السياسة المتقوقعة في القضية الأولى في السياسة الداخلية: «الراعي والقطيع»، لهذا تعذّر بناء الدول التي تقوم على شعوب لها دور في الحياة العامة، قادرة على إقامة أواصر بينية ذات مصالح حيوية مشتركة. وأدى الإهمال إلى الضعف البينيّ المشترك، الذي صار فرصة استيلاء من الخارج، ونجم عنه مسلسل من الانهيارات المتتالية.
العلاج ممكن في كل وقت، مع ترديد أغنية إلفيس برسلي: «الآن أو أبداً». منذ مطلع القرن العشرين وظهور أفكار تنويرية، أهمل النظام العربيّ الأهم، وهو ضرورة بناء الدول على فكرة رائدة غائيّة. الدول الأوروبية أفضل منّا حالاً بسنين ضوئية، ولكنها فكرت جماعيّاً. دع «البريكست» وانظر إلى مجموعة «بريكس»، هل المسافة التي بين البرازيل والصين أقصر ممّا بين بلاد العرب أوطاني؟ أين القضية التنظيمية الإدارية التنموية الجماعية، التي تربط الدول العربية بتأمين متطلبات السلوك الغريزي للجميع، ولكن بتنظيم وإدارة عاقلة تحفظ حقوق الجميع، وتدرأ بلوى استغباء الشعوب واستعبادها؟
لزوم ما يلزم: النتيجة العقلانية: كتب العلوم السياسية مفيدة إذا قُرِئت نظرياتُها على أنها مستحضرات تمويه للسلوك الغريزيّ.

abuzzabaed@gmail.com

Original Article

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى