قضايا ودراسات

تصادم الأصوليات والتطرف

محمد خليفة*

الإيديولوجيات المتطرفة، جعلت العالم أشبه بغابة من الصراعات؛ بالرغم من وجود الوعي بالطفرة الهائلة في ميدان العلم والاكتشافات التي تمثل فتحاً في العديد من المجالات؛ أبرزها التركيب الكامل للجينوم البشري والذكاء الاصطناعي والإدراك وعلاقة الدماغ بالقدرات المعرفية المتنوعة وطرق تنوع الذاكرة وأنواعها، وصعود التقنيات الرقمية مع ما تحمله من أسئلة وطروحات على مستوى الإنسانية عموماً، في حين أن الإنسان في مجال السياسة والقيم الأخلاقية مازال متأخراً في كافة جوانب النزعة الإنسانية في الفكر الحق والعدل. وهذا ما أشار إليه في كتاب «الهوية» المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما، مؤلف كتاب «نهاية التاريخ» وكتاب «النظام السياسي والاضمحلال السياسي»، عندما قال إن المؤسسات الأمريكية تعاني الاضمحلال، وذلك بسبب «الاستيلاء» تدريجياً على الدولة بواسطة لوبيات المصالح القوية الشعبوية.
فبعد صعود الجمهوريين المحافظين إلى حكم الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة ترامب، أصدر كتاباً جديداً بعنوان «الهوية» وكتب في مقدمته:» يبدو أن هؤلاء هم الغرباء السياسيون الذين تهدد وطنيتهم الاقتصادية المتطرفة الرأسمالية المتطرفة، وسوف تؤدي ميولهم الاستبدادية إلى زعزعة استقرار النظام الدولي كله وليس فقط النظام الأمريكي». ويشير إلى الهوية الأمريكية والتغيرات التي طرأت عليها، هذه هي هوية «بوبيولاريزم» الوطنية الشعبوية، القومية البيضاء تركز على الوضع الاقتصادي، لكنها في الحقيقة تهدف إلى الاعتراف بالهوية البيضاء.
وخير تجسيد للنزعة الشعبوية والانتماء الضيق ما يمارسه ترامب في خطاباته، فهو يعتقد أنه على خلاف الرؤساء السبعة السابقين عليه، يعتمد على الاعتزاز بالهوية العرقية، والدفاع عنها أمام اليساريين المتطرفين الذين لا هم عندهم غير الحديث عن المساواة للجماعات «المهمشة». وهذه الإيديولوجيات مضادة لحتمية صراع الحضارات، ولاسيما في ظل تقدم علم تكنولوجيا المعلومات الذي قرب المسافات وتجاوز الحدود، فأضحى من الطبيعي أن يجد هذا الطرح ردّاً سريعاً للغاية من كبار السياسيين الغربيين؛ الذين يؤمنون بأن المشهد الجديد الذي يحياه المواطن الطبيعي في جميع بقاع الأرض إنما يفرض على كافة أبناء البشرية التعاون فيما بينهم، والتفكير بشكل تكاملي والتعاون، وليس بشكل صدامي، نعني هنا ما يطلقون عليه «صراع الإيديولوجيات» أو تصادم الأصوليات الدينية مع بعضها، فأولئك الفلاسفة الأوروبيون ومنهم؛ المفكر رفائيل ليوجييه، أستاذ الفلسفة الفرنسي، الذي استبعد قيام شعبوية أصولية، حيث يرى أن هذا الصراع ليس صراعاً بين أديان مختلفة، أو عيباً في دين دون غيره، ولكنه يعود في الأساس إلى صراعات بين تيارات عنيفة مختلفة داخل كل ديانة، وبالتالي فمن غير الإنصاف اتهام دين بعينه دون غيره بالإرهاب أو بالتطرف؛ لأن الإشكالية ليست في الدين، وإنما في التيارات العنيفة والمتطرفة المختلفة داخل كل ديانة، وهي تيارات تتصارع فيما بينها بعيداً عن صلب الديانات.
ويشير الفيلسوف ليوجييه إلى أنه على الرغم من وجود صور وأنماط متطرفة تعتمد على إيديولوجيات دينية وسياسية إلا أن المعتقدات الأساسية للأفراد إنما تتراجع رويداً رويداً كعناصر معارضة للقيم. وتأتي هذه الأطروحات والنظريات الفكرية بهدف إظهار قيم الإنسان في العالم، وهي القيم الأخلاقية والاقتصادية، وهي شروط لقيم من نوع أعلى، وقيم فوق العالم، وتشمل القيم الأخلاقية التي تتضمن الفعل في الواقع الموضوعي وتحويل العالم المادي، ثم العودة إلى الالتزام بالقيم الروحية أو الدينية بوحدة القيم، فهي سلسلة ذات اتجاه واحد من القيم المحددة بعضها مع بعض، والتي يخضع بعضها لبعض، وفي جميع الأحوال، فكرة معيار عملي يعرض نفسه للإرادة، وهي المعطيات التاريخية أو الإثنولوجية، وهي قواعد تفرض على المجتمع، وإيضاح الإرادة الجوهرية للإنسانية، والحياة في المجتمع تؤثر في كل الإرادات وتنسق بينها وتنظمها، والمجتمع يصبح غاية عليا؛ لأنه وسيلة كلية، ولا قيام لمجتمع إلا بين ضمائر يفكر بعضها في بعض، ويتشكل المجتمع على نحو أفضل كلما كان يستند، من ناحية، إلى الإيمان الحر الذي يجمع العقول على الحق، ومن ناحية أخرى إلى التشريع العام الأخلاقي الذي يجمع بين الإرادات في التعاون في كافة معاني الأخلاق الأساسية، ومعاني الأخلاق العامة والكلية، وتصورنا أننا -بنو الإنسان- درجنا على أن الإيمان هو الخير الأسمى الذي يمثل عنصر التعاون والتعايش بين كافة البشر.
*كاتب من الإمارات

med_khalifaa@hotmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى