قضايا ودراسات

تقنية الكذب

كمال الجزولي
رغم أن الكثيرين لا يستحون من ممارسة السياسة (ربما الديماغوجية) كمجال خصب للكذب، فإن المرء ليحار إزاء ساسة ومؤرخين يكذبون كما يشربون الماء! عفواً.. هذا لا يعني أن هؤلاء وحدهم هم الذين يكذبون، إنما يعني، فقط، أن كذبهم هو الأخطر، خصوصاً في الجانب (الأخلاقي) منه، بطبيعة الحال، لا سيما أن مفهومنا للكذب يقترن، ضربة لازب، ومن حيث هو كذب، بتسبيب الأذى للآخرين، على مذهب عمانويل كانط.
لكن، على ما في هذا الجانب (الأخلاقي) من خلل بدهي، فما يحير أكثر هو الافتقار، غالباً، إلى إتقان (التقنية)! فالسياسي والمؤرخ، لكي يتسنى لأي منهما أن يكذب، ينبغي أن تكون لديه، أصلاً، ذاكرة في قوة خزانة فولاذية لا تسرب ولو خيطاً من شعاع، وإلا فإنه سيتناقض بين ما يقول اليوم، وما قد يكون قال بالأمس! وللعرب في هذا مأثورات، كقولهم: «إن كنت كذوباً فكن ذكوراً»، وهذا هو ما نعنيه بإتقان (التقنية)!
ومع أن العنصر الغالب في (الكذب) هو (الواقعة)، بمعنى رواية (واقعة غير حقيقية)، أو إيراد (روايتين متناقضتين) عن (واقعة واحدة)، فذلك ليس هو، دائماً، الأمر الحاسم في تعريف (الكذب)، إذ يندرج في عداده، أيضاً، خصوصاً بالنسبة للسياسي والمؤرخ، الإدلاء ب (رأيين متناقضين) حول نفس المسألة، فيتبنى الواحد منهما (الرأي)، مرة، ثم ما يلبث أن يتبنى ما (يدحضه) بعد حين، دون أن يطرف له جفن، ودون أن يكون لديه مبرر سوى النسيان، وهذا أهون المبررات، أو الانتهازية التي تسعى لتحقيق مصلحة ذاتية دون أن تأبه لعقول الآخرين، وهذا أغلظها!
جالت بذهني هذه الخاطرة في مناسبتين مختلفتين بفارق زمني متقارب:
ففي أولاهما شاهدت شريحتي فيديو تتضمنان رأيين متناقضين لقيادي (إخوانجي إسلاموي) سوداني كان قد انشق، فجرى إقصاؤه من النظام الحاكم، يخاطب، في إحدى الشريحتين، جمعاً من الشباب والطلاب، يحرضهم ضد النظام، ويدعوهم، وهو يرغي ويزبد، للانتفاض عليه، وإسقاطه، باعتبار ذلك من صميم مقتضيات الإيمان، لأن النظام، في رأيه، ميئوس من إصلاحه، رغم أنه، هو ذاته، كان قد شارك في تأسيسه! لكنه ما لبث أن انقلب، في الشريحة الأخرى، يشيد بنفس النظام، وبنهجه السياسي الذي يبدو كما لو أنه (انصلح)، فجأة، بعد أن صدر قرار رئاسي أعاد الرجل إلى موقعه في سدة الحكم!
أما في المناسبة الأخرى، فقد رأيت مؤرخاً يقيّم حدثاً تاريخياً سلبياً بأنه إيجابي، ولما انتقد الناس تقييمه هذا، انبرى يرد عليهم قائلاً: «لا، أنتم مخطئون، بل ولا تفهمون، فرأيي أنه سلبي، لكنه، في الواقع، إيجابي»!
كذب هذين السياسي والمؤرخ لا يتصل، في ما هو واضح، بإجراء كل منهما رواية واقعة معينة بوجهين يدحضان بعضهما بعضاً، بل بإظهار الواحد منهما موقفين متعارضين، أو رأيين متناقضين تماماً، إزاء أمر واحد فحواه، بالنسبة للسياسي، التقرير بشأن ما إن كان النظام يتسم ب (الفساد) أم ب (الصلاح)، وبالنسبة للمؤرخ التقرير بشأن ما إن كان الحدث التاريخي المعين (إيجابياً) أم (سلبياً)!
ولا تغير من جوهر الكذب حتى محاولات التذاكي التي تدعو إلى السخرية، والتي قد تقع، أحياناً، عن طريق التلاعب بالوقائع والآراء، كما في الطريقة الملتوية، مثلاً، التي تتم بها إعادة كتابة التاريخ، أو التحوير في الشكل الكلاسيكي للتنظير السياسي!
الحكم الإسلامي/‏ الأخلاقي على الكذب الصراح معلوم، بالطبع، كما في الآية الكريمة: «إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون» [النحل:105]؛ وكما في الحديث الشريف: «قيل: يا رسول الله، المؤمن يكون جباناً؟ قال: نعم، قيل: يكون بخيلاً؟ قال: نعم، قيل: يكون كذاباً؟ قال: لا» [رواه مالك في الموطأ].
والكذاب، في قول أرسطو، سواء كان على صعيد اختلاف (الوقائع) أو على صعيد تبدل (الرأي)، ليس هو، فقط، من يملك القدرة على الكذب، بل هو من يميل إلى الكذب!
مع ذلك فالذي يحير، حقاً، كما سبق وذكرنا، هو عدم إتقان الكذاب، كهذا السياسي وذاك المؤرخ، خصوصاً على صعيد (الرأي)، ترتيب قوله (تقنياً) إلى المدى الذي يضمن فيه لقوله (الثاني) أقوى تماسك داخلي، فضلاً عن أوثق اتساق مع قوله (الأول)!
على أن الافتراض الذي لا يمكن قبوله لفض الحيرة في هذه الحالة، هو أن هذين السياسي والمؤرخ مقتنعان بقدرة القولين معاً على إقناع الآخرين بحقيقتيهما، انطلاقاً من اقتناعهما، هما نفسيهما، قبل كل شيء، بتلك القدرة! اعتماد هذا الافتراض يعني، في المقام الأول، الاعتقاد بإمكانية (خداع الذات)، وهو ضرب من ممارسة الكذب بالغ الصعوبة، إن لم يكن مستحيلاً قولاً واحداً!

kgizouli@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى