ثنائية فلسطينية
يوسف أبولوز
أعطى محمود درويش اسم فلسطين معنى عالمياً، ونقلها من ضلع البحر الأبيض المتوسط إلى جغرافيات الأرض بتأثيثه الشعري أولاً، وإنسانية خطابه الأدبي الذي تفوق على الخطاب السياسي هو الذي أزعج الكيان «الإسرائيلي» أكثر من مرّة بقوة الفن وقوة القصيدة التي صاغها برائحة الزعتر وعبق البرتقال منذ «سجل أنا عربي»، مروراً ب«محاولة رقم 7»، ثم مرحلة مديح الظل العالي، وحتى الجدارية الناطقة بروح الحياة.
غسان كنفاني أيضاً أعطى فلسطين معنى إنسانياً كونياً بخطاب قصصي وروائي هو عنوان آخر من عناوين الأرض التي يراد لها أن تزول من الخريطة والتاريخ والجغرافيا، وكلما أمعن العدو في سياسة المحو واغتصاب الذاكرة كان الفن يتحول إلى حماية وجدانية ونفسية عند الفلسطيني الذي رأى صورته التراجيدية في الكتابة، كما رآها في الحقيقة وفي المجاز.
منذ نكبة 1948، مروراً بنكسة 1967، وانتهاء بثنائية المخيم والشتات، ثم «العودة» التي هي أقل من نصف عودة، والفلسطيني يرى صورته في الفن والكتابة وتجلياتهما في متواليات الأمل والحلم، ولو فقد الفلسطيني ثنائية الأمل والحلم، لكان اليوم هندياً أحمر ضائعاً في التيه والنسيان.
أريد أن أصل إلى الثنائي التشكيلي الفلسطيني: إسماعيل شموط 1930= 2006 وتمام الأكحل اللذين تمَّما جدارية محمود درويش، وكملا رواية غسان كنفاني، وجعلا من الريشة واللون قصيدة فلسطينية ملحمية مطرزة بالظل والنور.
منذ معرض إسماعيل شموط الذي رعاه وافتتحه الرئيس جمال عبدالناصر في القاهرة في 1954/7/21، وحتى رحيله في عام 2006 وهو يملأ لوحاته بكل المفردات الجمالية والدلالية والبلاغية التي تحيل إلى مكان واحد في هذا العالم وهو فلسطين: ومفرداته دائماً.. المرأة الفلسطينية بثوبها الفلاحي المطرز، ثم المجاميع الشعبية الحاشدة، والتراث بروحه الكنعانية، ثم تلك الغنائية الوارفة في اللون المشتق من قلب المكان الفلسطيني وإنسانه وذاكرته.
إسماعيل شموط الذي يستعاد اليوم في متحف الشارقة للفنون إلى جانب أعمالي أرملته تمام الأكحل.. هما معاً محمود درويش آخر، ناجي العلي آخر، غسان كنفاني آخر، وغير هذا الصف من الرموز الضميرية الفلسطينية التي حرست فلسطين، بالقصيدة، واللوحة، والأغنية، والكتابة ثم حرست فلسطين بعد وقبل ذلك بالحلم والأمل.
إسماعيل شموط وتمام الأكحل ذاكرة، ودليل، وخريطة طريق إلى حرية شعب مكبل بالمأساة والملهاة منذ أكثر من ستين عاماً.
ثنائي رائع في الحياة وفي الفن جعل من «الإسرائيلي» غائباً في وعيه اللاهوتي المزيف، فلا يجرؤ على الاقتراب من اللوحة الثنائية لأنها ممهورة بتوقيع فلسطيني معلن.
يحيط الفلسطيني حياته بالفن والإبداع والحياة، ويحيط «الإسرائيلي» كيانه وصورته بأسلاك شائكة فاشلة.
yabolouz@gmail.com