قضايا ودراسات

حدث في قرطبة

يوسف أبولوز

قارئ رواية «موت صغير» للكاتب السعودي محمد حسن علوان، يدرك بسهولة ذلك البرود وربما اللامبالاة التي أبداها ابن عربي أثناء زيارته ابن رشد في دارته بقرطبة بعدما طلبه هذا الأخير إلى زيارته.
ابن رشد يسأل ابن عربي عن قرطبة فيجيبه: «إنها منتهى الغاية وأهلها أولو علم ودراية على عرق كريم وعلم واسع..»، وشيئاً فشيئاً يستدرج الفيلسوف الكهل ابن عربي المتصوف الشاب ليقف على رأيه بشأن القوانين الطبيعية التي توصل إليها الفلاسفة، فيجيبه ابن عربي أن المتصوفة يتفقون مع هذه القوانين، ولكن في الوقت نفسه لا يتفقون (نعم ولا)، ثم يحسم إجابته قائلاً إن قوانين الفلسفة قوانين وضعية «.. تفسر ما مضى، ولكنها لا تفسر ما سيأتي كما هو الكشف..»، و«الكشف» مصطلح عرفاني يتردد عادة في لغة المتصوفة.
عدت بالقارئ إلى هذا المشهد من الرواية الذي يمثل نوعاً من الجدل الهادئ المؤدي بين قطبين متباعدين: عقلانية ابن رشد (الفيلسوف والمفكر)، وعرفانية ابن عربي المتصوف والشاعر والمفكر والفيلسوف أيضاً، ولكن ليس على طريقة ابن رشد.
أولاً وثانياً.. نتعلم من هذا الموقف الحواري السريع والبسيط أخلاقية الحوار أو أخلاقية الجدل والسجال.. وهي أخلاقية قائمة على عمق المعرفة المتحصلة من الكتب والتجربة والحياة، والقائمة، أيضاً على معرفة الشخص الذي نحاوره.. معرفة ذاته، وفكره، وأعماقه.. ومعرفة مشروعه الفكري أو الفلسفي، أو الأدبي.
أخلاقية الحوار هذه، إذا أردنا الابتعاد عن الرواية، شوهتها بل دمرتها تماماً بعض ما تسمى مواجهات حوارية، سواء في برامج تلفزيونية أو في ندوات وتظاهرات ثقافية تنعقد من وقت إلى آخر في اتحادات كتّاب أو في مؤسسات معنية بالعمل الثقافي، ففي الكثير من الأحيان تسود الفوضى، ويصل الحوار اللفظي، إلى حوار بالأيدي والأرجل، وأحياناً.. يتحول إلى حوار بالمسدسات.. هذا أولاً، أما ثانياً.. وهذا هو مربط الفرس كما يقولون، فإن قلب المتصوف هو قلب شاعر، في حين أن قلب المفكر هو قلب أبعد ما يكون عن الشعر. قلب المفكر محكوم إلى عقله، فيما قلب الشاعر محكوم إلى روحه ووجدانه وعاطفته الفوّارة، وتستطيع القول (شعرياً) إن المفكر أقرب إلى الأرض، وإن الشاعر أقرب إلى السماء. الشاعر يعيش في الريح، ويبدو المفكر كما لو يعيش بين الصخور. المفكر أقرب لما هو مادي، والشاعر أقرب إلى ما هو معنوي. المفكر تقريري، والشاعر تأويلي. الأول معبأ بما هو ذكوري، والثاني معبأ بما هو أنثوي. الأول تراب، والثاني ماء. الأول أبوي بطريركي نظامي.. الثاني أمومي، حركي، طفولي.
قريبة هذه المتباعدات والمتنافرات من روح لقاء ابن عربي، وابن رشد في قرطبة قبل مئات السنوات، وهي قريبة أيضاً من روح مئات الشعراء يعيشون اليوم بيننا ومعنا ليس في قرطبة بالطبع.. ولذلك ما أكثر ما تنشب بينهم الشجارات والعداوة وموت الروح.

y.abulouz@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى