قضايا ودراسات

خريف العرب مجدداً

حديث ما يسمى «الربيع العربي» يعيد إنتاج نفسه في الذاكرة الجمعية للأمة؛ وذلك عطفاً على كامل التراجيديا التي شهدتها الساحة العربية منذ تلك الصدفة التونسية البوعزيزية النابعة من تضاعيف القوانين الجبرية لدهاء التاريخ ومكره؛ فذلك البعد الموضوعي أمر غير منكور من قبل علماء التاريخ، المدركين لمعنى التراكمات الكمية التي تفضي لتحولات نوعية عاصفة، لكن مثل هذه القوانين الموضوعية، ليست بمنأى عند تدخلات البشر وتفانيهم في ركوب موجات التحولات، وهذا ما ينطبق أيضاً وضمناً على كامل الأجندات السياسية التي ترافقت مع العاصفة، وعملت على تجييرها لصالح هذا البعد أو ذاك.
المحافظون الجدد في الولايات المتحدة هم في طليعة من يستأنسون بعواصف الثورات والانقلابات، لإيمانهم الجازم بنظرية الفوضى الخلاقة، وتبنيهم الدائم لما يسمونه المبادآت الاستراتيجية، ونظرية الفرصة السانحة، التي تكتمل ملامح بقدر انتظار ذوبان فرقاء الصراع في عدمية التنافي والتقاتل. وقد وجد المحافظون الجدد البيئة المناسبة لتسويق نظريتهم، بل كان في العرب من يغض الطرف عن عقيدتهم بحثاً عن السلامة، ومن يتماهى معهم اعتقاداً بأنهم سيكونون البديل للأنظمة القائمة، غير مدركين للبراجماتية الأمريكية الأكثر تقطيراً، والأكثر قدرة على ترك الحلفاء والأصدقاء في ساحة الوغى عندما يحين الحين، وتنشر الحرب خرائبها وجنونها، وبالمقابل كانت الجماهير العربية تنساب صوب التفاعل الشامل مع الحدث، وكان التوق الدائم لمجتمع جديد مغاير للسابق أصلاً أصيلاً في معادلة الحلم الجميل الذي ترافق مع عواطف ووجدانات الجماهير العفوية، وبهذا المعنى نشأت بانوراما تركيبة أكروباتية للمشهد، فبمقابل الحقيقة الموضوعية القادمة من نواميس التاريخ والجغرافيا، فسحت الأجندات السياسية الراكبة للموجة تقاطعاً سلبياً بين مشروعي الداخل ممثلاً بالدين السياسي، والخارج ممثلاً في الريجانية الجديدة، فيما ترنحت بلدان العمق الديموغرافي العربي، لتبدأ متوالية الانهيارات وتتلاشى دولة الضرورة، وتتعملق بيئة الفوضى الشاملة، ليتحول ربيع الأحلام الألفية للجماهير العفوية إلى مخاض مازال يعيد إنتاج نفسه في الساحة العربية.
تلك اللحظة التي ترافقت مع مكر التاريخ ودهائه لم تنته بعد، فما يجري اليوم في اليمن وسوريا وليبيا والعراق، امتداد للسؤال ذاته، الذي لامس التراجيديا الشاملة في مختلف جوانبها.
التسمية التي أطلقها الغرب السياسي على «الربيع العربي» بالتوازي مع ربيع براغ التاريخي، كان ينطوي على رغبة غربية عارمة بانكشاف النظام العربي العام، بوصفه نظاماً يغرد خارج السرب الطبيعي للبشرية السوية، بحسب اعتقادهم، فالدلائل التي سبقت العاصفة والتي رصدها الغرب السياسي وفق أدواته المعيارية تشهد بأن النظام العربي كان ومازال أقصر قامة من التحديات، ذلك أن واشنطن لم تتنازل شبراً واحداً عن قراءتها للمشهد العربي من ثقب إبرة «تل أبيب» واليهودية السياسية المتصهينة، والشاهد الأكثر وضوحاً على ذلك يرتبط بتفرد الإدارة الأمريكية في رفع الفيتوهات أمام أي مشروع لإنصاف الفلسطينيين في الأمم المتحدة.
الحالة القطرية التي مهدت ضمناً لفوضى ما بعد الصداقات العربية الأمريكية، بما في ذلك الأداء الإعلامي المقرون بشبكة قنوات الجزيرة تستوجب التأكيد على أن تلك الشبكة ليست خارج الإرادة السياسية والسلطة الإشرافية لدولة قطر، ومن يعتقد غير ذلك فهو واهم، فهذه القناة جاءت بعيد التحول الكبير في العالم والذي ترافق مع «بريسترويكا» جورباتشوف وانهيار المنظومة الاشتراكية.. يومها استوهم الريجانيون الجدد في الولايات المتحدة أن إذاعة «أوروبا الحرة» هي التي أسقطت الإمبراطورية السوفييتية، وعندها جاء التبني الصاعق للفوضى الخلاقة ترجماناً لعقيدة سياسية أيديولوجية تتأسى بمنظومة واسعة من المفاهيم والمبررات الدينية والتاريخية والفلسفية.
كان اختيار قطر كمنصة انطلاق منطقياً جداً، بل ومناسباً تماماً، وأسهمت شبكة قناة الجزيرة في تبني الخطاب المضاد للسائد في خطاب الإعلام العربي.
أتصور أن هذا الاسترجاع المفاهيمي لنا حدث من ٢٠١١ يمكننا من رصد خريطة الزمن السياسي العربي الذي اقترن بهذا التحدي الكبير، ويؤكد مرة أخرى أن الإسفنجة العربية المنخورة أفسحت الدرب للفوضى التاريخية التي نتحمل مسؤوليتها جميعاً دون استثناء، ودونما إلغاء للدور الخارجي الذي وجد له حاضناً عربياً في الداخل.

عمر عبدالعزيز
omaraziz105@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى