خطأ استراتيجي تاريخي
د. عبد الله السويجي
على الرغم من أنه لا توجد في أدبيات الكتابة السياسية والاجتماعية كلمة (لو)، إلا أننا سنتجاوز المعايير، لأن ما يحدث في الوطن العربي منذ سنوات خارج عن أي معايير، بل إنه يمكن وصفه بزمن اختلاط المعايير وارتباكها وتناقضها، ومع هذا، السياسات مستمرة كما كانت قبل 70 عاماً، أي في عهد الانتدابات، وقبل الاستقلال.
من بديهيات العمل السياسي النظر في الأولويات، والتخطيط للمستقبل وقراءته، مع وضع سيناريوهات، وإدارات مختلفة لها، أي بمعنى من المعاني إدارة الأزمات المستقبلية بناء على استشرافها، وهذا يلزم المشتغلين بالسياسة، ولا سيّما في موضوع التحالفات، البحث عن الحليف الشبيه، الذي يشتركون معه بعناصر جوهرية، مثل الجغرافيا، واللغة، والمصير، والدين، بعد العمل الجاد على تقوية وتمتين الجبهات الداخلية واستقرارها.
وتبرز أهمية التحالفات أكثر في الأزمات، حيث يظهر النصير والصديق والشقيق، وأهميته في التفاعل الإيجابي مع الأحداث والأزمات، ولعل العالم العربي كان في أشد الحاجة إلى التحالف مع مكوناته الجوهرية، التي تشبهه لغة وديناً وتجاوره بالجغرافيا والتضاريس، منذ أكثر من سبعين عاماً، حين كان يبحث عن الاستقلال وتشكيل دول وكيانات، للنهوض بمجتمعاته بعد أن عصفت به حربان عالميتان، كان العالم العربي فيها غير فاعل، ومسرحاً للعمليات والأحداث الجسام، لكنه استطاع في دول كثيرة أن يتحرّر ويحقق الاستقلال وبناء دول، وإن كانت بالتنسيق مع دول الانتداب وأهمها فرنسا وبريطانيا، فرنسا في المغرب العربي وبعض دول المشرق، وبريطانيا في دول المشرق وبعض الدول الإفريقية العربية مثل مصر والسودان والخليج العربي.
لكن البحث عن الزعامات قاد إلى حدوث انقلابات كثيرة في شرق العالم العربي ومغربه، أدى إلى عدم استقرارها سياسياً ومدنياً، إذ لم يعرف الشعب العربي حتى يومنا هذا، منذ العصر العثماني، مروراً بالانتدابين الفرنسي والبريطاني، استقراراً سياسياً، ولا مدنياً، بمعنى أن النخبة الثقافية والسياسية لم تستطع بلورة أنظمة تحقق الاستقرار في هذه الدول، وكانت النتيجة، جمهوريات حكمها رؤساء لعقود من دون تغيير، وحكمتها عائلات إقطاعية بدون تغيير، أما الأنظمة الملكية فهي معروفة أو متعارف عليها، ولكن ما حدث أن الجمهوريات اتخذت منهج التوريث، والأمثلة عديدة، وهي الجمهوريات ذاتها التي تعرّضت أو تتعرض حالياً، لفوضى أودت بمئات الآلاف من القتلى والجرحى والمعاقين واليتامى والأرامل، ناهيك عن خسارة المليارات من الدولارات، وهدم مئات الآلاف من الوحدات السكنية، فضلاً عن تدمير البنى التحتية، والأخطر من ذلك، ظهور التطرف في أبشع صوره، والفتن المذهبية في أردأ وجوهها، وتركت الناس للجهل مرة أخرى، وللضياع والهجرة والكفر بالقيم الوطنية والأحزاب والتنظيمات، والوقوع مرة أخرى فيما يشبه الانتدابات.
حدث هذا في ظل وجود جامعة للدول العربية، ظهرت إلى الوجود قبل أكثر من 70 عاماً، وربطت بين أعضائها اتفاقيات دفاعية واقتصادية وثقافية وقانونية واجتماعية، لكنها ظلت حبيسة الأدراج. ترى، لو قامت جامعة الدول العربية بدورها منذ البداية، هل كانت الدول العربية قد وصلت إلى ما وصلت إليه الآن من تشرذم؟ مع الأخذ بعين الاعتبار أن ميثاق الجامعة يهدف إلى تمتين الحس القومي العربي، ويشجع على أشكال الوحدة والاندماج والتنسيق بين الأعضاء، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، ولدى الجامعة عدو واحد، تسعى إلى مواجهته وهو الاحتلال «الاسرائيلي»، ولديها شعب مهجّر ومظلوم ونازح هو الشعب الفلسطيني، وجميع قرارات الجامعة العربية السياسية كانت تؤكد على دعم الشعب الفلسطيني، ولا سيّما حقه في العودة إلى أرضه التي هُجّر منها. هل لو أخلص المتعاقبون على رئاسة الجامعة العربية إلى نظامها الداخلي وقوانينها وسياساتها وتطبيق اتفاقياتها ومعاهداتها، هل سيجرؤ الاحتلال على التعامل مع الفلسطينيين وقرارات الجامعة بهذه اللامبالاة؟ وهل لو طبقت الجامعة العربية قراراتها كلها، ونفّذت والتزمت بالاتفاقيات والمعاهدات، هل سنجد هذا الانقسام الواضح بينها، الذي يصل إلى حد العداء المستحكم؟ وهل لو تم تعزيز الشعور بالعروبة والقومية، ستجرؤ دول غير عربية على تهديدها، ونشر مذهبها واستقطاب مئات الآلاف من أفراد شعوبها، لحاجتهم إلى المال والغذاء والماء والكهرباء؟ هل لو كانت جامعة الدول العربية جادة في سياساتها، كانت ستقوم دولة هنا ودولة هناك بدعم الإرهابيين وتنفيذ سياسات إرهابية مدمّرة لمقدرات الشعب العربي؟ وهل لو طبقت الجامعة اتفاقياتها الثقافية، هل سيجد تنظيم مثل «داعش» ثغرات يدخل منها مثل الجهل، ليخرّب المجتمعات، ويخدم أجندات «إسرائيل» في المنطقة العربية؟ هل لو تحالف العالم العربي مع مكوناته، واستغل موارده ومقدراته وخيراته، ووظّفها في دوله ولصالح مجتمعاته، وكان عادلاً، هل سيحتاج إلى حليف يدافع عنه أو يرسل له الغذاء والدواء والسلاح والخبراء؟
صحيح أن كلمة «لو» لا تنفع الآن، والندم لا يجدي، ولكن، هل فات الأوان على إعادة التنسيق بين دول العالم العربي، ووضع استراتيجية محكمة تعيد إليه لحمته، وتحدد له مصيره؟ نأمل أن الفرصة لا تزال موجودة، فقط تحتاج إلى اتقاء الله.
suwaiji@icloud.comOriginal Article