دولة الأمن القومي والتسلح المكثف
بول أتوود*
طالما أننا لا نستطيع إقناع أغلبية الرأي العام بالوهم الذي تفرضه علينا الإدارة الأمريكية بشأن التسلح، ونفضح التضليل الإعلامي، لن يتغير شيء، وسوف نستمر على هذا الطريق نحو مستقبل جهنمي.
وهذا الموقف يتناقض طبعا مع دعاية الحكومة الأمريكية ووسائل الإعلام الرئيسية النافذة والداعمة لها، والقائلة إن السياسة الخارجية للولايات المتحدة مكرسة من أجل الحفاظ على السلام العالمي، وعلى نظام عالمي «ليبرالي وعادل» بمواجهة أعداء يريدون تدمير هذا النظام. والوقائع تدحض مثل هذه البيانات والتصريحات، في حين أن من يفضح حقيقة هذه البيانات والتصريحات، يتعرض لاتهامه بعدم الإخلاص للوطن ونزوعه إلى الحرب.
باختصار، الماكينة الدعائية الأمريكية تتحدث بلا توقف عن مكائد خبيثة لدول متعددة مثل روسيا، والصين، وكوريا الشمالية. والتهويل بأخطار ماحقة تحدق بنا لا يتوقف أبداً، ونتيجة لذلك يتقبل الرأي العام هذه المزاعم على أنها حقائق، فيبقى غافلاً عن الأخطار الحقيقية التي تكمن في السياسات العسكرية لحكومتنا ذاتها.
والحقيقة هي أن جميع الحروب، والانقلابات، والاغتيالات التي قامت بها واشنطن في نصف القرن الأخير كانت كلها اختيارات عن سابق تصور وتصميم، ولم تكن تستند إلى تهديدات فعلية لأمننا القومي، بل استهدفت ضمان أرباح شركات الأسلحة العملاقة وحلفائها فيما يعرف باسم المجمع العسكري – الصناعي، الذي تطال أذرعه كل مؤسسة رئيسية في الحياة الأمريكية: الكونجرس، وكالة الاستخبارات المركزية «سي آي إيه»، وسائل الإعلام، والجامعات. وهذا المجمع يحتاج أساسا إلى تهديدات، مصطنعة وملفقة، تستخدم كمبرر لشن الحرب.
وكم من المواطنين الأمريكيين يعرفون أنه مع نهاية الحرب العالمية الثانية، قرر أولئك الذين كانوا يسيطرون على الإنتاج الحربي في زمن الحرب أن الولايات المتحدة بحاجة إلى «اقتصاد حرب دائمة» ؟. وحسب منطق هؤلاء، فإن التوقف عن الإنتاج المكثف لأدوات الحرب – مع ما يضمنه من أرباح طائلة – سيؤدي إلى إفلاس العديد من الشركات العملاقة، مع ما يستتبع ذلك من بطالة على نطاق واسع يمكن أن تنذر باضطرابات اجتماعية.
وكانت هناك أيضا مشكلة ملايين الجنود الذين عادوا إلى الوطن عقب الحرب العالمية الثانية، والذين ما كان من الممكن أن يرتضوا بارتهان حياتهم إلى الإعانات الحكومية للعاطلين عن العمل وإعانات الجمعيات الخيرية.
وحيث إن اقتصاد الحرب الدائمة يقتضي وجود عدو دائم، أو أعداء دائمين، فإن صقور واشنطن المدعومين من شركات الأسلحة، أخذوا يرددون عبر وسائل إعلامهم النافذة، أن الأمة بحاجة إلى «دولة أمن قومي» قادرة على احتواء التهديدات لسلام وأمن العالم. وهذه التهديدات كانت طبعا الاتحاد السوفييتي والشيوعية الأممية.
غير أن الحقيقة هي أن الاتحاد السوفييتي كان ضعيفا للغاية نتيجة لخسائره البشرية والمادية الرهيبة خلال الحرب، ولم يكن بالتالي يشكل أي تهديد عسكري. وفي الواقع، أمكن بسهولة احتواء الاتحاد السوفييتي.
وعقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، لم يعد العالم يشهد أي تهديد حقيقي في أي مكان، فاختارت الولايات المتحدة عن سابق تصور وتصميم كوريا من أجل ترسيخ دولة الأمن القومي. وفي حينه، هتف وزير الخارجية الأمريكي دين آتشيسون يقول: «نشكر الله على تفجر قضية كوريا». وما جعل آتشيسون سعيداً كان في الحقيقة واقع أن الحرب الكورية مكنته من مضاعفة ما يسمى «ميزانية الدفاع» ثلاث مرات.
واليوم، ازداد الإنفاق «الدفاعي» الأمريكي منذ اعتداءات 11 سبتمبر/أيلول 2001 أكثر من ثلاث مرات، ليقترب من حد التريليون دولار سنوياً. وهذا التضخيم للإنفاق العسكري يترافق مع تبني سياسات تنزع إلى الحرب تحت قناع «الأمن القومي».
إن حكومة تسيطر عليها هذه الذهنية لهي حكومة تستنزف شريان حياة المجتمع المدني، وتتسبب باتساع نطاق الفقر، وتهدد بتفجير مزيد من الحروب، وحتى بتفجر حرب عالمية.
وإلى أن نقنع الرأي العام بأن يتصدى ل «الحقائق» الزائفة، لن يتغير شيء.
*أكاديمي وكاتب أمريكي – موقع «كاونتر بانش»