قضايا ودراسات

رهان الجبارين.. كسر «تحصين امتلاك القدس»

د. محمد السعيد إدريس

ثلاثة شبان من مدينة أم الفحم في فلسطين المحتلة عام 1948، وجميعهم من عائلة «جبارين» وثلاثتهم اسمهم محمد هم: محمد حامد جبارين (19 عاماً) ومحمد فضل جبارين (19 عاماً) ومحمد أحمد جبارين (29 عاماً) قرروا كسر جدار الصمت المريب بكل المعانى داخل فلسطين وداخل كل بلد عربي، صمت أخرس لم يعد يذكر اسم فلسطين ولا حتى اسم الأقصى تذرعاً بأن «هموم الجميع تكفيهم». الجبارون الثلاثة، كان قرارهم ثلاثي الأبعاد، بعدان من نصيبهم والبعد الثالث رحلوا وهم يأملون أن يلقى نصيبهم ويعلن نفسه. فهم قرروا أن يستشهدوا من أجل فلسطين وأهلها.. ماضيها وحاضرها ومستقبلها وقرروا أن يكون استشهادهم في قلب الأقصى، وكان لهم ما أرادوا على أجمل وأكمل وجه.
في الصباح الباكر من يوم الجمعة الماضي، وبينما كان المسجد الأقصى يستعد لاستقبال مئات الآلاف من المصلين لأداء صلاة الجمعة، دخل الأبطال الثلاثة إلى عمق الأقصى واشتبكوا مع حرس الحدود عند «باب الأسباط» فقتلوا اثنين منهم وأصابوا آخرين بجروح متفاوتة، ثم هرعوا إلى باحات الأقصى حيث طاردهم جنود الاحتلال وشرطته، واشتبكوا معهم حتى استشهدوا في صحن قبة الصخرة.
لم يحلموا أن تصعد أرواحهم من صحن قبة الصخرة الشريفة، لكنها إرادة الله ورضوانه، لكنهم حلموا أن يكتمل البُعد الثالث لقرارهم بأن تستيقظ الضمائر وتعود للغضب من أجل كل ما يتعرض له الأقصى من تدنيس من العصابات اليهودية المتطرفة التي تقصد هدمه، وما يتعرض له من مخططات ومؤامرات من جانب سلطات الكيان التي أحست بالذعر من قرارات تصدر من منظمة اليونيسكو مرة بحق الأقصى الشريف وأخرى بحق الحرم الإبراهيمي في الخليل تؤكد الهوية العربية الإسلامية وتدافع عن الحرمات والتاريخ.
حلم أبناء الجبارين كان حلماً بسيطاً وهو أن تُحرّك دماؤهم الزكية وأرواحهم الطاهرة ركام الصدأ الذي اعتلى المعنويات العربية بحق القدس الشريف والأقصى المبارك، وأن تكون البداية من قلب فلسطين، بأن يتجدد الأمل في انتفاضة أقصى جديدة، تلقي بكل مخططات الكيان وطموحاته في تحالفات مستحيلة مع من يعتبرونهم شركاء في أهداف جديدة تجاوزت الإطار الفلسطيني الذي ظل عائقاً أمام تحقيق طموحات تعايش وسلام من نسج خيالهم.
قد لا تتجدد الانتفاضة بالسرعة التي كان يحلم بها الشهداء الثلاثة، لكن المعنى الذي نجحوا في تأكيده لن يرحم كل المتواطئين الصامتين، الذين يتعمدون تجاهل حقيقة ردود الفعل «الإسرائيلية» المباشرة على الحدث ويحاولون حصرها في الحدود الضيقة لمطالب سدنة الأقصى ورواده وهو إلغاء البوابات الإلكترونية التي أقامتها سلطات الاحتلال، وفرضت على المصلين العبور من خلالها للصلاة داخل الأقصى من البوابات التي يسمحون بها فقط دون غيرها من البوابات التي أغلقوها واحتفظوا بمفاتيحها وخاصة «باب الرحمة» الذي يفتح على المنطقة التي تدّعي جماعات يهودية أنها مقامة على أنقاض «الهيكل» المزعوم، في حين أن ما هو أهم، ما يدبر داخل الكيان لإنهاء علاقة الأقصى بالوطن الفلسطيني، وجعل القدس كلها شرقها وغربها عاصمة موحدة للكيان الصهيوني.
القدس هي الهدف وفلسطين كلها هي الهدف وليست هناك أي نية لا لمفاوضات ولا لأرض تقام عليها دولة فلسطين، وهم يعتقدون أنهم ليسوا مضطرين للتنازل عن أرض يزعمون أنهم حرروها من المحتلين العرب، وأن الأرض كلها من النهر إلى البحر هي الأرض الموعودة لدولة «إسرائيل»، لذلك تزامن مع إجراءات التضييق على دخول المصلين إلى الأقصى لجوء الكنيست إلى فرض ما يسمونه ب «تحصين امتلاك القدس».
البوابات الإلكترونية هي مجرد إجراءات رمزية وتكتيكية تومئ بأنهم «أصحاب السيادة عليه» للتمهيد لما هو أهم وهو إغلاق الأقصى نهائياً وإعلان تهويده وهدمه لإقامة «الهيكل المزعوم» ليكون عنواناً لانتصار الدولة اليهودية؛ لذلك فإن الخطوة الأهم التي تزامنت مع الإجراءات الانتقامية من الأقصى والمصلين بعد عملية استشهاد أبناء الجبارين الثلاثة هي تقديم اليمين المتطرف داخل الكنيست مشروع قانون تحت اسم «القدس الموحدة» أقرته اللجنة الوزارية للتشريع بإجماع أعضائها للتصويت داخل الكنيست، وينص على أن «أي انسحاب من القدس أو قرار يتعلق بالسيادة «الإسرائيلية» عليها أو على أي جزء منها يتطلب تصديق غالبية مطلقة من 80 نائباً في الكنيست على الأقل (من مجموعة ال 120 عضواً الذين يضمهم الكنيست)»، المقصود من هذا التشريع، وعلى نحو ما كشف زعيم المستوطنين وزير التعليم نفتالي بينيت، والذي يصفه بأنه «تعديل تاريخي» هو منع أي احتمال في المستقبل لتقسيم القدس (أي منع أي انسحاب إسرائيلي من القدس الشرقية أو أجزاء منها)، متباهياً بأن «القدس عاصمتنا نجت في الماضي من كارثة تقسيم القدس من رئيسي الحكومة السابقين: إيهود باراك، وإيهود أولمرت، والآن جاء التعديل ليضع حداً لأي محاولة مماثلة في المستقبل».
إقرار اللجنة الوزارية للتشريع لهذا المشروع بإجماع الأصوات يحمل دلالات مهمة أبرزها أن النخب الحاكمة في الكيان متوحدة على أن القدس الموحدة هي عاصمة أبدية لهم، وهذه هي رسالة الكيان التي أرادوها للرد على عملية استشهاد الجبارين الثلاثة، الذين راهنوا والذين مازالت أرواحهم تأمل بأن يتحقق حلمهم ويتحرك من هم قادرون على كسر جدران الصمت العربية وكسر قوانين تحصين القدس.

msiidries@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى