ريح عاتية وسحب تتجمع
جميل مطر
يصعب إنكار أن الشرق الأوسط شهد على امتداد السنوات الست الماضية تطورات بالغة الأهمية، سواء على مستوى الدول كل على حدة، أو على مستوى الإقليم. واختلفت أنصبة الدول من هذه التطورات. دول شهدت تدميراً وحروباً وخراباً، ودول شهدت بدايات تحول، ولا أقول تغيير، في أفكار ومؤسسات استقرت عقوداً، وفي حالات أخرى استقرت قروناً، ودول من نوع ثالث اقتربت من الوضع المهدد كيانها، أو هويتها القومية.
مصر مثلاً، شهدت فجر ثورة سرعان ما أطبقت على عنقها العديد من القوى الداخلية والإقليمية والدولية، صاحبة المصالح المتناقضة، حتى كادت تخنقها، أو فلنكن أكثر دقة فنقول تسببت بعرقلة مسيرتها فقط. المهم في الحالة المصرية أن المؤسسات التي حافظت في أزمات أسبق على الكيان المصري استطاعت في هذه الأزمة حمايته، كما فعلت من قبل. وفي اعتقادي أن ما فعلته مؤسسات مصر كان لمصلحة النظام العربي، رغم استمراره على طريق الانحدار، وفي الوقت نفسه كان كاشفاً عن مدى اهتراء مؤسسات دول أخرى. كان أيضاً مؤشراً على ضرورة الوجود المصري من أجل استمرار النظام الإقليمي العربي، وتأكيداً جديداً لقاعدة أن حيوية النظام العربي يعتمد على حيوية مصر ومؤسساتها، وبالعكس. ثالثاً، كانت حيوية المؤسسات المصرية في أوقات الأزمة العامل الضروري لتسهيل مهمة استعادة كفاءة وعمل بعض مؤسسات الدولة في سوريا بعد أن كدنا نفقد الأمل في عودتها، وكاد القليلون يحتفلون بانفراطها.
المملكة السعودية مثال آخر. لا يحب قادة المملكة، وبعض مفكريها، استخدام كلمة الثورة في وصف أي تحول جذري يحدث في بلادهم. أنا لست من قادتها أو من مفكريها وصانعي الرأي فيها؛ لذلك منحت نفسي الحق لأن أعتبر بعض ما حدث في المملكة من تطورات خلال الشهور الأخيرة يقع تحت عنوان تحولات ثورية الطابع، وربما النتائج. تقع تغييرات ما كانت لتقع بإجراءات روتينية، أو بيروقراطية عادية، وما كانت لتقع ضمن أحكام وقيود ما شرعه المؤسسون وسار عليه خلفاؤهم. وقعت بالفعل تغييرات في الحيز الاقتصادي والتنموي مثل 2030 وعولمة «أرامكو» ومشروع «نيوم» في شمال غرب المملكة، وفي الفضاء الاجتماعي مثل خروج المرأة من محابسها التقليدية، ونزع أدوات ومصادر قوة أجهزة التكفير الديني والإرهاب الفكري. ثم اهتز العالم الخارجي، وبعده الإقليمي، حين انتشرت أخبار حملة مكافحة الفساد على نطاق غير مألوف. هذه الحملة التي لم تكن جزءاً من أحلام أشد المتفائلين بمستقبل المملكة. لا أستطيع كمراقب خارجي إلا أن أعتبر هذه التغيرات، ما تحقق منها وما هو على الطريق ليتحقق، تحولات «ثورية». أكتب هذا وأنا مدرك تمام الإدراك لحجم الأبعاد الإقليمية والدولية المترتبة على «ثورة» في المملكة السعودية.
على صعد أخرى، قد تعود سوريا بعد حروبها العديدة على امتداد السنوات الخمس الماضية كياناً مستقلاً، أو بإرادة غير مكتملة الحرية، لكنها وفق كل الحسابات الأكاديمية وغير الأيديولوجية لن تعود سوريا التي كانت، ولا أحد يستطيع التنبؤ بالشكل والجوهر اللذّين سوف تنتهي إليهما. تنبهوا في الوقت نفسه إلى أن المصريين عندما يفكرون في سوريا ففي ذهنهم أمن مصر، وأمن الجزيرة العربية معاً. فكر فيها على هذا النحو المسؤولون عن صنع السياسة الخارجية المصرية في عهد الأحزاب والنظام الملكي، وكذلك نخبة السياسة الخارجية في جميع العهود التالية التي كان للمؤسسة العسكرية دور بارز في صنع وتنفيذ سياسة مصر الخارجية. حاولت استطلاع ردود فعل السوريين على مختلف مشاربهم، وما أكثرها، انتقل لي وبقوة فضولهم الشديد المصحوب بدرجة عالية جداً من التوتر. مزيج غريب من التفاؤل والخوف والأمل. المزيج نفسه كان موجوداً وبكثرة في ردود فعل مصريين من مختلف الاتجاهات والمعتقدات.
اليمن قضية كبيرة للغاية وكل الجهود الممكنة لوقفها يجب توظيفها فوراً ومنها العمل العربي المشترك بعد منحه الصلاحيات اللازمة، والشراكات العربية الدولية، مثل شراكة الاتحاد الأوروبي، والشراكة مع روسيا التي كللت بنجاح لا بأس به في سوريا، وكذلك الشراكة مع الولايات المتحدة.
يشغلني حقاً أن مؤسسات النظام العربي، خاصة الجامعة العربية، ومشروعات الدفاع والأمن والتكامل متوقفة، ولسنا هنا في مكان أو نية توزيع مسؤولية هذا التوقيف. أشير إليه الآن باعتبار الفرصة للتذكير بأنه لو جرى تفعيله وتنشيطه في وقت سابق لربما أفلح اليوم في وقف التدهور العربي العام، أو دعم انتفاضة التنوير في السعودية. أشير إليه أيضاً باعتبار أن أي انفجار جديد في الشرق الأوسط في الظروف الراهنة دولياً وإقليمياً سوف يكون بمثابة قبلة الموت للنظام العربي ولإنجازات وتحولات ما زالت في مهدها.