سخريات تطابق وجهات النظر
بداهة، كل خطاب سياسيّ – دبلوماسيّ يحتمل ظاهره الإنشائيّ ألواناً شتى من المضامين الزئبقيّة. على السطح إيهام، وفي العمق إبهام. صدق الأديب الفرنسيّ بول فاليريّ: «إننا نتفاهم، لأننا نتكلم بسرعة»، ما يعني أننا ندّعي تحديد المقصود، فيدّعي المتلقي أنه أدرك القصد. التفاهم هو تبادل الكلمات غير المحددة في معانيها، بالتالي ينتج عنها «كوكتيل» مضامين غير دقيقة. أمام هذه الباقة من الغوامض والأحاجيّ، يصل أحد الطرفين إلى غايته حين يكون الآخر «على نيّاته».
الخطاب السياسيّ- الدبلوماسيّ في الأنظمة الديمقراطيّة الاستعماريّة، والمستبدّة الفاشلة، يقوم في جوهره على المسرح والألعاب السحرية وخداع البصر، تمثيل وتمويه وخفة يد، إلى جانب ذلك أباطيل ترويج وتسويق ودعاية وإعلان. مستوى المهارة والإتقان يحدّد القدرة على جعل الأشياء تبدو جديّة ذات صناعة فائقة. الانخداع، الذي يأخذ طابع الاقتناع بتلك الأحابيل، هو قبول ما لا يملك مقوّمات القبول عند الفحص الدقيق، جرّاء نجاح التمويه.
ندع التنظير، ونأخذ النسبيّة الساخرة في عبارة شائعة في الخطاب السياسيّ – الدبلوماسيّ: «تطابق وجهات النظر». بمجرّد سماع هذه الكلمات ترى اللغة تغمز في دعابة قائلة: تطابق أم طباق؟ توافق أم انسياق؟ ما أكثر ما تشاهد مسؤولاً فلسطينيّاً، أو عربيّاً، يعلن، بعد لقائه نظيراً أمريكيّاً أو غربيّاً، تطابق وجهات النظر في سبل التوصّل إلى السلام وحلّ القضيّة الفلسطينيّة. الحلّ في نظر العربيّ أن يوجد حلّ للمشكلة، وفي فهم نظيره الانحلال والإنهاء والتصفية وغسل اليدين. التحليل العميق هو المصيبة السوداء. ماذا يعني التطابق؟ هل يعني ذلك أن المسؤول الفلسطينيّ أو العربيّ غايته الأولى والأخيرة، أن تكون «إسرائيل» أقوى من جميع الدول العربية مجتمعة؟ أن تظل تنهش الأرض قضمة قضمة حتى آخرِها، حتى آخرَها،حتى آخرُها، ويموت هو وفي نفسه شيء من حتى القضيّة؟ هل هو الآخر ينظر نظرة بلفوريّة نكبويّة هاجانيّة هرتسليّة بن جوريونيّة بيجينية إلى القضية؟ هل وراء إعلانه تطابق وجهات النظر،الخلفيات نفسها التي في رأس بريجنسكي وكسينجر وبرنارد لويس وبرنار هنري ليفي؟ المشكلة التراجيكوميديّة المصدّعة هي أن تحاول جنابك، في ظلام تلك المعطيات، تخيّل الحوار الذي دار بين الطرفين وانتهى بالتطابق في وجهات النظر. كل المجازر كانت دفاعاً عن النفس. تكافؤ الحجارة ومئتي قنبلة نوويّة. إلغاء حق عودة اللاجئين. صهينة القانون الدوليّ. تقزيم منظمة الأمم.إذا استطعت كتابة هذا الحوار، فأنت عبقري زمانك في تحويل اللاّمعقول إلى فن سياسيّ.
لزوم ما يلزم: النتيجة اللغويّة: التطابق هو عدم الإحساس بالطابوق على الدماغ.
عبد اللطيف الزبيدي
abuzzabaed@gmail.com