قضايا ودراسات

شهيدان وسلاح العلم

من رحم الموت تولد الحياة، ومن ظلمات القتل والدمار والخراب تضاء بارقة أمل لتؤكد أن هذا الشعب حي في معاركه مع مغتصب أرضه، حي في مقارعته لخطوب الحياة، فهو يحمل في إحدى يديه البندقية يذود بها عن حمى وطنه ضد عدو استمرأ الغدر والخيانة، ويحمل في الأخرى دواة ومحبرة ينشئ بهما الأوطان، ويقيم من خلالهما البنيان، هو شعب جعل من شهدائه منارة لأجياله اللاحقة، فبينما خرجت الآلاف التي تصدح بحناجرها معلنة أنها ستأخذ بثأر شهيدين فلسطينيين ارتقيا خلال الاشتباكات مع قوات الاحتلال «الإسرائيلي» في مخيم جنين، كانت الآلاف في الجهة المقابلة تواكب قطار العلم والمعرفة؛ لتجّنيَّ حصاد عام دراسي توج بإعلان نتائج الثانوية العامة، بتفوق واضح وكبير حققه الطلبة على مستوى فلسطين. ربما هذه المصادفة جاءت لتؤكد أن الشعب الرازح تحت نير الاحتلال الغاشم، لا بد له من أمرين: أن يقدم دماءه لردع الصهاينة الذين يسومونه سوء العذاب ليلاً ونهاراً، وأن يقاوم بسلاح العلم ضاغطاً يده على زناد التفوق الذي يغيظ عدوه المحتل.
صباح يوم الأربعاء، قتلت جحافل الجنود «الإسرائيليين» المدججة بأحدث الأسلحة وأشدها فتكاً شابين أعزلين تصديا لها بكل بسالة حتى ارتقيا شهيدين جميلين ليعمدا تراب فلسطين بدمائهما الطاهرة، وليؤكدا أن جذوة المقاومة غير خائرة، وأن سلاح الردع حاضر رغم الفروق الكبرى في موازين السلاح لمصلحة الاحتلال.
الكيان الذي توهم أن حيله العفنة ودسائسه الساذجة أخضعت الضفة الغربية، وهجّنتها لتسير في فلك المستسلمين، بُددت حساباته، وارتدت عليه خسراناً مبيناً، وعادت إليه بالصفعات المتتالية؛ حيث يمكننا أن نقول إن الصفعة الثانية التي تلقاها الاحتلال في اليوم نفسه الذي استشهد فيه الشابان الفلسطينيان، جاءت بالإعلان عن نتائج الثانوية العامة بتفوق ملحوظ وكبير للطلبة، الذين ذاقوا الأمرين بفعل ظلم الاحتلال لهم، من إغلاق الطرقات، والاعتداء على المدارس، واعتقال الطلبة، إلى جانب قطع الكهرباء، واقتحام المدن والبلدات. فقد أدرك الفلسطينيون في نكباتهم المتلاحقة، أن العلم هو أحد أهم الأسلحة الناجعة التي تبقت لهم، فنجحوا فيه، وحققوا فيه نتائج متقدمة على المستويات كافة، فلم تثنِ عزيمتهم عراقيل المحتل في أن يحققوا المراكز الأولى في نسب الالتحاق بالجامعات، كما أنهم برعوا وكان لهم قصب السبق في المراكز العلمية العالمية.
رغم المكائد المتتالية التي تحاك ضد هذا الشعب، إلا أنه يثبت في كل مرة أنه عصي، وغير قابل للانكسار، كما أن محاولات تغريب الكيان للعقول الفلسطينية قد فشلت فشلاً ذريعاً، ولم يفلح أيضاً في حصار التعليم، رغم الإجراءات القاسية والأساليب الخبيثة، والتمويلات المشبوهة التي استخدمها للقضاء على هذه الظاهرة.
بداية الانتصار الكبير، تمثلت في وجود عقول واعية قادرة على مقارعة المحتل بالعلم والتعقل، فالعديد من الإنجازات التي تحققت على المستوى الدولي لمصلحة الفلسطينيين مردها العلم، ففي بريطانيا مثلاً أوقفت جامعات عدة التطبيع مع الكيان؛ بسبب جرائمه، وكان المحرك في هذا الصدد هو العقل الفلسطيني الحاضر والضاغط في هذه المؤسسات العلمية.
يد تقاوم، ويد تبّني هذا ما يحتاج إليه الشعب الفلسطيني في الوقت الراهن في ظل الهجمات المسعورة عليه، لإنهاء حلم دولته، وتصفية قضيته. الفلسطينيون أبدعوا في الصد وتقديم ملاحم في المقاومة، وأيضاً سبقوا الأمم بالإنجازات العلمية التي أفادت البشرية جمعاء، ليؤكدوا أنهم شعب حي، ينشد الحرية وقد دقوا بابها بأيديهم المضرجة بالعلم والتضحية.
علي قباجه
aliqabajah@gmail.comOriginal Article

زر الذهاب إلى الأعلى