قضايا ودراسات

صحيفة ترعب الفاسدين في فرنسا

فيصل جلول
«لا بد من انتظار الأربعاء القادم لمعرفة ما إذا كانت صحيفة» لوكنار أونشينيه «ستنشر شيئاً جديداً عن القضية». هذه العبارة تتداولها وسائل الإعلام الفرنسية وبعض السياسيين في كل مرة تشهد البلاد فضيحة سياسية هي في الأغلب من أثر منشورات الصحيفة التي كانت وما زالت مصدراً للأخبار الموثوقة في معظم المسائل السياسية الفرنسية، بل كابوساً يؤرّق الطبقة السياسية في هذا البلد، إذ يمكن أن يسهم خبر فيها بإسقاط شخصية سياسية كبيرة أو دخول نائب معروف إلى السجن أو حتى انتحار شخصية مهمة.
آخر ضحايا «لو كنار أونشينيه» هو ريشار فيران الوزير في حكومة إيمانويل ماكرون، المعيّنة للتو، الذي اتهمته الصحيفة بأنه استغل نفوذه لتأجير عقار لزوجته في مدينة بريست، الواقعة شمال غربي فرنسا وبالتالي الإفادة مالياً من منصبه بما يخالف القانون، فضلاً عن استفادة أشخاص كثيرين مقربين منه من تدخلاته لصالحهم عندما كان مديراً لشركة تأمين صحي في العام 2011.
وتعد هذه الفضيحة ضربة معنوية قاسية للرئيس الفرنسي الجديد الذي بادر عهده بالتشديد على توفر المعايير الأخلاقية في حكومته وإعداد قانون لهذه الغاية، علماً أن ماكرون لم ينزع بعد الثقة عن وزيره ويوفر له التغطية المعنوية، باعتباره بريئاً حتى تثبت إدانته، خصوصاً أن فيران وهو نائب اشتراكي، التحق بحملة ماكرون الانتخابية، وكان محرّكاً أساسياً في تنظيم «فرنسا إلى الأمام» الذي أسسه الرئيس الجديد عشية الرئاسيات المنصرمة.
وكانت «لوكنار أونشينيه» قد نشرت فضيحة سابقة حول المرشح الرئاسي الفاشل فرانسوا فيون الذي كان يتمتع بأعلى نسبة من المؤيدين في السباق الرئاسي، وكانت حظوظه في الفوز بقصر الإليزيه قوية للغاية حتى بدا وكأنه لا يقهر، في هذا الوقت نشرت الصحيفة خبراً موسعاً عن استغلال فيون لموقعه البرلماني من أجل توظيف زوجته بوظيفة وهمية، وتحقيق أرباح غير قانونية، وقد أدت هذه الفضيحة إلى تراجع شعبية فيون والى فشله في الرئاسيات الماضية، وبالتالي قطع الطريق على اليمين الديجولي للعودة إلى الحكم.
والثابت أن عدد ضحايا هذه الصحيفة من رجال المال والسياسة كبير جداً، ومنهم من دخل السجن أو انتهى مستقبله السياسي، أو أصيب بانهيار عصبي، أو انتحر بأثر من معلومات نشرتها الصحيفة. ويعد انتحار بيار بيريجوفوا رئيس الوزراء الفرنسي في التسعينات، أحد أبرز ضحايا الصحيفة التي اتهمته بقضايا فساد. وقد علق رئيس الجمهورية الاشتراكي الراحل فرانسوا ميتران على انتحار رئيس وزرائه بالقول «لقد نهشه الكلاب» في إشارة إلى الصحيفة التي ردّت على رئيس الجمهورية بكلام شديد القسوة، معتبرة أنها قامت بواجبها الإعلامي الذي تتيحه القوانين ولم تنشر أخباراً كاذبة، وبالتالي ليست مسؤولة عن المأساة التي حلّت ببيريجوفوا.
ولعل كثيرين لا يعرفون سيرة هذه الصحيفة الجديرة والمهمة بل الأساسية في الحياة الديمقراطية في فرنسا. ربما تكون «لوكنار أونشينيه» الصحيفة الأكثر تواضعاً في العالم بالقياس إلى أهميتها ونفوذها، فهي أسبوعية ورقية تضم 8 صفحات فقط من القطع الكبير، وترفض نشر الإعلانات حتى لا تتعرض لضغوط مالية، ويتقاضى صحفيوها أجوراً هي من بين الأعلى في الصحافة الفرنسية، ويصل توزيعها أحياناً إلى 500 ألف عدد أسبوعياً، تعرضت «لو كنار أونشينيه» لاعتداءات ومؤامرات ومحاولات تجسس عدّة خلال تاريخها الطويل الذي بلغ المئة عام، حيث أسسها خلال الحرب الأولى السيد مارشال وزوجته وهو صحفي مستقل أرادها ساخرة وتسودها روح الدعابة السوداء في تناول القضايا السياسية والشخصيات المهمة.
تتهم الصحيفة بالارتباط بأجهزة المخابرات الفرنسية وبالميل نحو اليسار، وهو أمر تنفيه وتؤكد أن معلومات تصلها أحياناً بما يوحي أنها مسربة من أجهزة لكنها لا تنشر شيئاً قبل التحقق منه، والتأكد من مصادره، أما عن ميلها نحو اليسار فهو واضح في بعض مواقفها، لكنها لم تهمل نشر فضائح اشتراكية ويسارية. وقد رأينا آنفاً كيف تسببت عن غير قصد في انتحار رئيس الوزراء الاشتراكي الراحل بيار بيريجوفوا. هذا فضلاً عن أن الصحيفة خسرت الكثير من دعاوى القدح والذم، لكن ذلك لا يطعن في مصداقيتها، خصوصاً أن ممارسة المهنة تنطوي بحد ذاتها، على مخاطر الوقوع في أخطاء ومطبّات وأحيانا أفخاخ معدة بعناية.
في بلد باتت فيه الصحافة مملوكة بقسمها الأعظم من أصحاب المليارات، وبالتالي ما عادت تتمتع بكامل مواصفات السلطة الرابعة، تبدو «لو كنار أونشينيه» الصحيفة المتواضعة الشكل والإخراج، تبدو مثل «كلب الحراسة» الأهم في النظام الديمقراطي الفرنسي، على جاري الوصف المتداول في الغرب لأدوار الصحف والمثقفين المستقلين، فلولا شجاعتها ومخاطرة صحافييها، لما تراجع الفساد ولما شعر المفسدون والفاسدون بالخوف، ولما امتنع رجال السياسة عن استخدام نفوذهم لتحقيق المكاسب المالية، وربما بقي العديد من الجرائم القذرة وأصحابها طي الكتمان.
وإذا كانت الديمقراطية تعيش فقط على الحدود الفاصلة بين السلطات وبخاصة على قدرة السلطات المضادة على أداء دورها باستقلالية عالية، فإن استقلال الصحافة المطلق شرط حاسم في حياة النظام الديمقراطي، فهي التي تراقب السلطات الأخرى وهي التي تصوّب أداءها وتحرس معايير وظائفها.. الخ.
ولعل الصحافة معرّضة هي أيضاً للفساد، شأنها شأن السلطات الأخرى، خصوصاً عندما تعمل وسط السوق وبأمواله وإعلاناته ومغرياته. وحتى تقطع دابر هذه المغريات، اختارت «لو كنار أونشينيه» التقشف كثمن لا بد منه للحرية.. والسلطان.

fjalloul3@yahoo.fr

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى