قضايا ودراسات

عصر إرهابي جديد

عاصم عبد الخالق
تروي كتب تاريخ الإرهاب في الغرب أنه في السادس عشر من سبتمبر/أيلول عام 1920، كانت نيويورك على موعد مع مأساة مروعة لا سابق لها في الولايات المتحدة. في ذلك اليوم كانت الحياة تسير على وتيرتها المعتادة: الشوارع مكتظة بالمارة والسيارات والعربات التي تجرها الخيول. واحدة من تلك العربات شقت طريقها بهدوء إلى قلب المدينة حيث شارع وول ستريت الشهير. وفي الثانية عشرة ظهراً وصلت إلى غايتها في أكثر مناطق الحاضرة الأمريكية ضجيجاً وازدحاماً، أمام بناية بنك جيه بي مورجان. في هذا الوقت من كل يوم يخرج آلاف الموظفين والعمال لتناول الغداء في المطاعم التي تزدحم بها الطرقات. كثيرون منهم كانت تلك رحلتهم اليومية الأخيرة، فقد انفجرت العربة المحملة بكميات هائلة من الديناميت.
يحكي الشهود أن الحطام المختلط بأشلاء الضحايا ودمائهم كان يتطاير بارتفاع المبنى المكون من 34 طابقاً. وتقول سجلات الشرطة إن عددهم بلغ 38 قتيلاً و43 مصاباً. كان ذلك هو الحادث الأول من نوعه والأكبر في تاريخ الولايات المتحدة. ويعتقد أن أحد المتطرفين دينياً من أصل إيطالي هو مدبره.
توارت هذه المأساة في جانب بعيد من الذاكرة الأمريكية بفعل الزمن، ولأن ما تلاها بعد ذلك كان أكثر فظاعة مثل هجوم أوكلاهوما 1995، ومنفذه أيضاً متطرف يميني مسيحي. ثم هجمات سبتمبر/أيلول 2001، التي نفذتها «القاعدة».
منذ ذلك الوقت لم تتوقف العمليات الإرهابية في الغرب، وأحدثها كانت في لندن الأسبوع الماضي. غير أن ما تشهده المدن الغربية حالياً من إرهاب يختلف كثيراً عما عرفته قبل ذلك. إذ يرى الخبراء أن مرحلة جديدة من العمل الإرهابي قد بدأت. وهي تختلف عما سبقها من حيث التكتيك، والأدوات، والأهداف، وأساليب التجنيد والتخطيط والتنفيذ. وكذلك الدوافع ومسرح العمليات ونوعيات الضحايا المستهدفين.
تشكل هذه العوامل مجتمعة ملامح عصر إرهابي جديد يرفع رايته السوداء جيل جديد من الإرهابيين يختلفون أيضاً عمن سبقهم، وإن كانوا جميعاً لا يجيدون سوى صناعة الموت.
انتهى عصر استهداف الشخصيات البارزة، وبدأ عصر قتل المواطن العادي. لم تعد المنشآت الحكومية أو الاستراتيجية شديدة الحراسة، الهدف المفضل. الهجوم على المسارح والملاعب وحتى الشوارع أسهل ويحصد ضحايا أكثر. انتهي كذلك عصر العضو المرتبط تنظيمياً بجماعة إرهابية، وانتهى معه التحرك الجماعي والتخطيط المركزي ليبدأ عصر «الذئاب المنفردة». و«داعش» هي صاحبة السبق في هذا الاتجاه.
وخلافاً للانطباع السائد فإن الحقيقية التاريخية التي تسجلها مجلة «نيويوركر» الأمريكية تقول إن العالم شهد في الماضي موجات من الهجمات الإرهابية أكثر مما يشهده اليوم. ووفقاً لقاعدة بيانات الإرهاب العالمي لجامعة ميريلاند الأمريكية فقد قتل أكثر من عشرة آلاف شخص في أكثر من 18 ألف هجوم إرهابي منذ 1970 وحتى 2015.
وتشكل سنوات السبعينات والثمانينات من القرن الماضي الحقبة الأكثر دموية. خلال هذين العقدين عرف العالم منظمات مخيفة مثل بادر ماينهوف الألمانية، والألوية الحمراء الإيطالية، وإيتا الإسبانية، والجيش الجمهوري الإيرلندي وغيرها. وبلغ معدل الهجمات في أوروبا خلال تلك الفترة عشر عمليات أسبوعياً، وهو معدل لا يحدث حالياً، إلا أن حجم الدمار وعدد الضحايا أصبحا أكبر. ويوضح وليام برانيف، مدير ائتلاف دراسات الإرهاب في جامعة ميريلاند، أنه في الفترة من 1970 وحتى 2014 لم يسقط قتلى في 53% من الهجمات.
أحد الاختلافات المهمة بين إرهاب اليوم والأمس، يتعلق بالإطار الفكري للجماعات الإرهابية، وهي في معظمها حالياً ذات مرجعية دينية. بينما كانت في الماضي ذات مرجعة قومية علمانية تتبنى أهدافاً سياسية، وتركز عملياتها غالباً داخل حدود المنطقة ذات الصلة بقضيتها. في حين أصبح العالم كله مسرحاً لعمليات «داعش» حالياً.
ويعتقد بروس هوفان، مدير الدراسات الأمنية في جامعة جورج تاون الأمريكية، أنه أمام الغرب خمس إلى عشر سنوات قبل أن ينجح في كبح المد الإرهابي الحالي. وإلى أن يتم ذلك سيظل يتعذب، وهو يحبس أنفاسه، انتظاراً للضربة المقبلة التي لا يعرف متى ولا من أين ستأتيه.

assemka15@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى