عودة العلاقات الدولية نحو الينابيع
د.نسيم الخوري
يقودنا انحسار الأحادية الدولية ومشاعية الحروب إلى معادلة أو مقدّمة جديدة في العلاقات الدولية:
يبدو القوي ضعيفاً بسبب تردّده، ويبدو الضعيف قويّاً بسبب جرأته وجروحه التاريخية. يمكن ربط هذه المعادلة بالرعب النووي الشائع منذ هيروشيما حيث تتطلّع الدول الصغيرة إلى هذا السلاح بعدما فتحت خزائن العلوم والأذهان.
لماذا أكتب عن كوريا الشمالية.؟
1- أكتب عنها ليس لأنّها الحدث الملتهب، الذي شدّ العيون البشرية لتراها النقطة المضيئة الأخطر المهدّدة بحربٍ عالمية. لن يرى العالم هذه الدولة في وقتٍ تقول عنها الأقمار الصناعية عند رؤيتها أنّها نقطة سوداء مظلمة لا كهرباء فيها في الليل. لا إنترنت ولا اتّصال مع العالم الخارجي. ما يكتب عنها وعن رؤسائها الثلاثة الجدّ المؤسّس كيم إيل سونج، وولده كيم جونج إيل وحفيده الرئيس الحالي كيم جونج أون (درس في سويسرا ويعشق الجبنة الفرنسية ويدخّن ويشرب بنهم وهو أصغر رئيس دولة في العالم32 سنة) فاق حدّ الأساطير والغرائب والعجائب التي لم أعاينها. لقد سبق لكوريا أن أعلنت منذ عقد استعدادها لنشر صاروخين باليستيين قادرين على بلوغ الأراضي الأمريكية للمرّة الأولى كما نشرت مجلّة «جينز البريطانية» في 23 سبتمبر/أيلول 2007 وأوضحت بأنّ الصاروخ الأوّل يطلق من قاعدة أرضية ثابتة، ويقدّر مداه بين 2500 و 4000 كلم. أمّا الثاني فيمكن إطلاقه من غوّاصة أو سفينة ويصل مداه إلى 2500 كلم.
2- أكتب عن كوريا الشمالية، لا لأنّها أرعبت العالم الأحد 3 سبتمبر/ أيلول 2017 عندما نجحت في تحدّيها السادس بأكبر تجربة نووية في تاريخها، وتمكنت من تفجير قنبلة هيدروجينية، يمكن تحميلها على صاروخ باليستي. وقع التفجير على الصين وكأنّه هزة أرضية 6.3 درجة على مقياس ريختر، حسب اليابان. هي التجربة التي تحمل قدرة تدميرية أكبر بكثير من القنبلة النووية التي تعتمد على مبدأ انشطار ذرات اليورانيوم أو البلوتونيوم. أكتب عنها لأنّني عندما وصلت إلى عاصمتها بيونج يانج عبر موسكو بدعوةٍ رسمية في العام 1986 وكانت بقيادة كيم إيل سونج، كان المشهد الجوّي الأوّل الذي أسرني أنّ لا بقعة جرداء في كوريا، فالاخضرار عندما تهبط قد يصدمك ويستنفر ضجرك بمرور الوقت وكأنّها جنّة خارج الدنيا.
الكلمة الأولى التي سمعتها أنّ بلادهم تحوّلت رماداً، وأمر كيم إيل سونج بجعل مساحتها ال 120 ألف كلم مربّع سجّادة خضراء أوّلاً. قيل لنا أنّ أوّل إنجاز صناعي كان جراراً زراعياً، لم يسر إلى الأمام بل إلى الخلف. وعندما طلبت الإيضاح قالوا: بدأنا بجّرار يسير إلى الخلف وسنصل إلى النووي ذات يوم. أكتب عنها لأنّني زرتها باحثاً ومكثت فيها 42 يوماً وبحوزتي الكثير من المدوّنات الشخصية والسياسية تشكّل مادة دسمة لكتابٍ مثير وموضوعي يغاير بكثير ما يظهر عنها الآن.
3- أكتب عنها ليس لأنّ أعضاء مجلس الأمن قد صوّتوا بالإجماع الاثنين (12 الجاري) على مشروع قرار بفرض عقوبات جديدة أكثر قساوةً ممّا سبقها على كوريا الشمالية، تقدمت به الولايات المتحدة رداً على تجربتها السادسة الأكبر في تاريخها. وليس لأنّ قرار العقوبات هذا جاء رغم تحذيرات بيونج يانج، من أنها ستلحق بواشنطن «الآلام الكبرى» إذا فرضت عليها عقوبات جديدة. هذا مع العلم بأنّ الإجماع الدولي جاء معطوفاً على دعوات بوتين للحوار تفادياً «لكارثة عالمية» إلى تأرجح ترامب الأمريكي بين مسح كوريا عن خريطة العالم، ثمّ إزاحة العمل العسكري من البال كخيار أوّل إلى دعوة رئيس الصين شي، بتجنّب الأقوال والأفعال الحادّة. أكتب عنها لأنّنا نقيم في زمنٍ مشرّع على الحروب المفتوحة المشابهة والمتنقّلة في الحقائب المحشوّة بالألغاز والأهداف والتحوّلات بما يبرز معادلة الأقوياء والضعفاء أكثر تعقيداً مع تفشي الإرهاب.
4- يمكنني الكتابة باختصار أنّ ال 25 مليون نسمة في كوريا الشمالية يتشابهون بالشكل والنحول واللباس ونمط الحياة والقناعات بأنّ الصراع بين الكوريتين لم يكن نتيجة حربٍ أهلية بل لتدخّلات الخارج. كانت الحرب الكورية المدموغة في ذاكرتهم وأجنّتهم منذ ال 1950 أول مواجهة مسلحة تصارعت فيها قوى الحرب الباردة وأورثت صراعات ومآسٍ كثيرة متتالية وقعت بعد تقسيمها لثلاث سنوات. بدأت العمليات العسكرية في 25 يونيو/ حزيران 1950، وتوقفت بتوقيع الهدنة في 27 يوليو/ تموز 1953. ونشب هذا الصراع بمحاولة كلا البلدين ضم الطرف الآخر إلى حكومته، وأدى ذلك إلى اندلاع حرب واسعة النطاق كلّفت الجانبين أكثر من مليوني ضحيّة.
5- أكتب للتذكير أنّه بعدما توصّلت إيران إلى اتّفاق مع دول مجموعة ال 6+1 عبر مفاوضات طويلة، خرجت كوريا الشمالية لتعلن أنّها غير مهتمّة بأي علاقة مع العالم على غرار إيران، معتبرةً أنّ النووي لديها هو رادع ضروري ضدّ عدائية أمريكا ومعلنةً «إنّنا قوة نووية والقوى النووية لها مصالحها الخاصة».
ترتفع أصوات كثيرة معارضة لإيران في الغرب والشرق، تتّهم طهران وكوريا الشمالية بالتعاون القديم الواسع والمتجدّد في مجال السلاح النووي والصواريخ الباليستية، وتشير إلى قيام البعثة النووية الكورية بزيارات ثلاث إلى طهران في 2015. وتذهب التحليلات إلى القول بسياسة التكامل والتعويض المتبادل الملغز بين الدولتين. لكن مهما صدقت الأسباب وتعدّدت، يفترض بالكتابة عن الكوريتين الشمالية والجنوبية، أن تمرّ بهدوء في ينابيع أساسية قبل المجاري الإيرانية والسورية وغيرهما من المجاري الفرعية أعني القراءة مجدّداً في إعادة تفجّر ينابيع العظمة بين واشنطن وموسكو والصين، والنماذج المشابهة لا تحصى في الشرق الأوسط.
drnassim@hotmail.com