عولمة على الطريقة الصينية
ثلاث مرات في أقل من شهر أسمع ما يذكرني بخطة مارشال للإنعاش الأوروبي. كنت شاهداً عن بعد على احتفالات متواضعة في أوروبا وواشنطن بمناسبة مرور ثمانين عاماً على إطلاق فكرة تخصيص صندوق للإنفاق منه على برنامج لإصلاح بعض ما دمرته الحرب العالمية الثانية في أوروبا. ففي شهر يونيو/حزيران من عام 1947 وقف جورج مارشال وزير الخارجية الأمريكي على منبر في جامعة هارفارد يعلن النية الأمريكية لإنعاش أوروبا والمساهمة في تخفيف وطأة الخراب وتوقف الإنتاج وتوسع أرقام البطالة.
في المرة الثانية كنت أتابع باهتمام الاستعدادات الجارية في هامبورج وبولندا لعقد مؤتمر «قمة العشرين»، أي قمة للدول الأغنى في العالم. تابعت أيضاً بعض أعمال المؤتمر الذي كما توقعت لم يكن يستحق الوقت الذي بذلته أنا وغيري في هذه المتابعة. ومع ذلك كانت استفادتي عظيمة حين تحققت من أن نقاشاً من نوع آخر يجري خارج قاعات المؤتمر؛ بل وبعضه جرى خارج هامبورج. كان هناك داخل وفود الدول الكبيرة، وكلها كما ذكرت، وفود دول بالغة الثراء، من يفكر في قضية خلافة الولايات المتحدة في منصب قيادة العالم، وكله أيضاً بهذه المناسبة، مع استثناءات تكاد لا تذكر، رأسمالي. كنا نسمي «قمة السبع» في بداياتها قمة العالم الحر. الآن يتردد أغلب السياسيين وقادة الإعلام في استخدام هذا التعبير لوصف اجتماع عالمي. لا «قمة السبع» تمثل العالم الحر ولا «قمة العشرين»، فقد تقلصت مساحة العالم الحر لتشمل مالا يزيد ربما على حفنة دول في الاتحاد الأوروبي.
الآن ومع انسحاب أمريكا من اتفاقية باريس حول المناخ، وتعطيل المفاوضات حول اتفاقية المنطقة الحرة لدول عبر الباسيفيكي، والتهديد بوقف العمل بالاتفاقية حول الأمريكيتين تراجعت الثقة الدولية في قدرة أمريكا على الاستمرار في توجيه وقيادة العالم، فهي أيضاً غير قادرة على تحمل أعباء إنعاش إقليمين، أحدهما دمرته الميليشيات والجيوش المعادية لثورات ما يُسمى «الربيع العربي» وهو الشرق الأوسط، إضافة إلى أفغانستان والعراق، والآخر هو إفريقيا التي لم تجد بعد فرصتها للانطلاق. كلاهما في حاجة إلى خطة توازي في أهميتها خطة مارشال لإنعاش أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.
اتفقت التحليلات، في معظمها على الأقل، على أن ألمانيا، أو أي دولة أخرى منفردة لا تستطيع أن تتحمل أعباء الإنعاش في الإقليمين إلى جانب الاستمرار في دعم الاقتصادات الأوروبية؛ لذلك كان مثيراً التحليل الذي توصل إلى أن الحل يكمن في شراكة تكون ألمانيا طرفاً فيها، ويمكن للصين أن تكون طرفاً آخر. عدت إلى الأرقام لأكتشف أن ميزانية خطة مارشال التي بدأ تنفيذها في إبريل/نيسان 1948 لم تزد على 13 بليون دولار وهو رقم يعادل بالقيمة الراهنة حوالي 130 بليون دولار. تخصص للمملكة المتحدة 26% منها وفرنسا 18% وألمانيا الغربية 11%.
ألمانيا وحدها لا تستطيع؛ ولكن ألمانيا بشراكة مع الصين ربما تستطيع. هذه الشراكة لن تنال الصدقية اللازمة إلا إذا قامت في سياق جديد، هو الرضا الدولي العام على بزوغ قيادة جديدة للنظام الدولي، قيادة تشاركية بين ألمانيا، تدعمها فرنسا، من جهة والصين من جهة أخرى.هكذا يقوم لأول مرة في التاريخ نظام دولي تكون قاعدته هذه المساحة الشاسعة المسماة بأوراسيا وهذه الجماعة السكانية الهائلة وهذا المزيج الفريد من ثقافات وعقائد.
سمعت عبارة خطة مارشال للمرة الثالثة خلال فترة قصيرة عندما كنا نناقش تقريراً يعرض ويحلل مبادرة الحزام والطريق. المبادرة هي الشكل الجديد لمبادرة صينية انطلقت في القرن الثالث عشر وربما قبل ذلك التاريخ. الهدف منها تيسير طرق آمنة تحمل بضائع من الصين إلى أقاليم بعيدة وبالعكس.
أما القسم الثاني من المبادرة، ويحمل اسم الطريق فهو الشكل الجديد لطريق الحرير الذي قرأنا عنه نحن وأجدادنا، وتاريخه يعود إلى أيام الرحالة الإيطالي ماركو بولو.
الحلم يتحقق.. عرضه الرئيس شي على القطاع الخاص العالمي في دافوس. ومن وسط الصين خرج قطار من وسطها ليصل إلى لندن في أقل من نصف الوقت الذي تأخذه السفن في رحلتها من موانئ جنوب آسيا عبر قناة السويس.
عرفنا أن المبادرة لم تقر ويبدأ تنفيذها إلا بعد أن نوقشت بالتفصيل وبكل الصراحة من جانب مراكز البحوث والجامعات الصينية. هناك مثلاً الباحث جيا داشاو الذي ينبه إلى أن مبادرة الحزام والطريق يجب النظر إليهما في حجمهما واتساعهما الطبيعي. بمعنى آخر لا يجوز النظر إليهما كما ينظر الضفدع إلى السماء من موقعه الضيق في قاع البئر فلا يرى إلا أقل القليل. المبادرة سوف تصل إلى كل دول العالم باستثناء الولايات المتحدة.
من ناحية أخرى، يعتقد تيان وينلين أن قدرة أمريكا على الهيمنة على الشرق الوسط ضعفت وأصبح من الصعب الاعتماد عليها. هذا الوضع سوف يدفع دول المنطقة إلى التعاون مع الصين. بينما يدعو جاو شانتاو من معهد العلاقات الدولية في جامعة وزارة الخارجية إلى السعي لجعل السعودية الهدف الواعد في المنطقة تليها الإمارات.
اختم باقتباسين لخبيرين صينيين أحدهما يطالب الحكومة الصينية بالتزام مبادئ «اللاءات الثلاث»: لا نسعى لخلق دول عميلة، ولكن ننصح ونتوسط. لا نسعى لملء فراغ ولكن نتوسع في إطار شبكات التعاون التي تحقق منافع لكل الأطراف.
الخبير الثاني وهو لي شاوشيان يختم دراسته محذراً بمقولة شهيرة وهي أن الشرق الأوسط معروف بسمعته كمقبرة للدول الكبرى.
حذرة أم غير حذرة، مترددة أم حاسمة، لا فرار للصين من الانغماس في مشكلات الشرق الأوسط بعد أن شكلت بالفعل شبكاتها للتعاون أو بالأحرى شبكات الهيمنة الاقتصادية، وبعد أن أصبح لها مطالب لدى حكومات في الإقليم تتعلق بمسائل سياسية وأخرى أمنية، وبعد أن صارت هدفاً لتيارات إسلامية متشددة، وبعد أن كادت غواية ملء الفراغ تعصى على المقاومة.
جميل مطر
gmf.club@gmail.com