غياب التعاطف مع محنة الطفولة العربية
د. علي محمد فخرو
إضافة إلى ما يكشفه المشهد العربي الحالي البائس من تخبُّط سياسي تمارسه القيادات السياسية الرسمية والأهلية، ومن مبالغات في التعامل الأمني، ومن تجذر للفكر التكفيري الإرهابي المجنون، فإنه يكشف أيضاً تراجعاً مذهلاً في مقدار الحساسية الضميرية والأخلاقية تجاه فواجع ومآسي ذلك المشهد.
منذ نجاح أطراف خارجية وداخلية في حرف حراكات ما يسمى «الربيع العربي» الجماهيرية العفوية من كونها سلمية إلى إدخالها في متاهات العنف والعسكرة، ومنذ استبدال الشعارات السياسية الديمقراطية الإنسانية، متمثلة في الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية، بشعارات طائفية وعنصرية عرقية ملتهبة، ومنذ فتح الأبواب أمام القوى التكفيرية الطائفية الإرهابية لتندس وتقحم نفسها في صلب حراكات «الربيع» تلك، من خلال دعمها بالمال والسلاح والتدريب وتسهيل انتقال أفرادها من كل بقاع العالم إلى ساحات التوترات في الوطن العربي، ومن خلال مدها بأيديولوجية سبي النساء وتجنيد الأطفال وقتل أصحاب الديانات الأخرى لتشويه صورة الإسلام ونفيه في هذا العالم.. منذ حدوث ذلك كله، في شكل مؤامرات دنيئة وجنون سياسي وأمني قل مثيله، بدأ موضوع الضمير والقيم والأخلاق الدينية والإنسانية يطرح الأسئلة بقوة متزايدة. ما عاد المشهد سياسياً وأمنياً فقط، وإنما أصبح أخلاقياً أيضاً.
أول سؤال بديهي مطروح: هل تجرد قادة السياسة والجيوش والأمن في بلاد العرب من فضيلتي التعاطف والرحمة؟ ليس هذا سؤالاً فلسفياً متحذلقاً، إنه من صلب واقع الحياة الإنسانية.
الجانب الواقعي لذلك السؤال هو: كيف يستطيع أولئك الذين عبّدوا الطريق للإرهاب أن يناموا ليلهم بهدوء وراحة بال بعد أن يشاهدوا طوال النهار مشاهد الجحيم الذي تعيشه أرض العرب؟
هل يستطيع من لديه ذرة من ضمير حي أن يرى يومياً وجوه أطفال العرب الخائفة الباكية المتسائلة، التي أضناها الجوع والعطش والنوم في الخرائب والطرقات وأرعبها رؤية الجثث والجيف من حولها وسماع ضجيج طلقات الأسلحة النارية طوال النهار والليل، أو التي أضناها المرض لتصبح أجسادها هياكل عظمية وعيونها زائغة حزينة دامعة وهي ترقد على خرق بالية في المستشفيات المدمرة المغلوبة على أمرها بلا دواء ولا غذاء ولا طبابة ؟. هل يستطيع من يرى تلك المناظر أن ينام في فراشه بهدوء وأن يغطّ في نوم عميق؟ ألا يرى دموع ودماء أولئك الأطفال وهي تقطر من يديه وتستصرخه أن يفعل شيئاً؟ أن يتنازل عن كبريائه، عن طموحاته الأنانية المريضة، عن مشاعر الغضب القاسي في داخله، ويستبدلها بمشاعر التعاطف والشفقة والرحمة والإنسانية؟
أسأل نفسي مراراً: ألا يقوم هؤلاء من نومهم فزعين بعد أن يكونوا قد رأوا في أحلامهم مشاهد المدن المدمرة المحترقة، ومشاهد الملايين الهائمين على وجوههم في الطرقات وخيام المنافي الرثة وساحات التسول وبيع العفاف والشرف؟
أسأل نفسي مجدداً: هل ماتت فضيلتا التعاطف والرحمة في أرض العرب وحلت محلهما رذيلتا التشفي والقسوة؟ وأتذكر هنا قول رب الرحمة: «ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم». ويلحّ عليّ السؤال: هل نسي هؤلاء الله فأنساهم أنفسهم؟
هنا أتذكر أيضاً قول الفيلسوف شوبنهاور من أن التعاطف هو القوة الكبرى التي وراء كل قيم الأخلاق، وأنه يقود إلى العدالة ومحبة الخير للناس، فهل غياب التعاطف إعلان عن نهاية الأخلاق في أرض العرب؟ وتاريخ البشرية يعلمنا بأن أرفع وأنقى أنواع الحكمة هي التي تتغذى على فضيلة التعاطف مع آلام الآخرين، بل أننا لا يمكن أن نتكلم عن تواجد الإنسانية في البشر إلا إذا التزم هؤلاء بحمل المسؤوليات التي تتطلبها فضيلة التعاطف وبالشعور بالأخوة الإنسانية مع المتوجعين واعتبارهم إخوة لنا في السراء والضراء.
نحن هنا لا نقصد التعاطف المتصدق الذي يمُنّ على الضحية بمساعدته المادية أو المعنوية لها. فأطفال العرب ليسوا بحاجة لمثل ذلك التصدق المتعالي المتكبر.
نحن هنا نتكلم عن أحاسيس تحركها عذابات الآخرين المساوين لنا في القيمة الإنسانية، وعن قيمة أخلاقية يحتاج الإنسان إلى أن يتعلمها وينميها في أعماق نفسه، خصوصاً إذا كان يتحمل مسؤوليات القيادة.
ولذلك فالتعاطف الذي لا يؤدي إلى حمل مسؤولية يتبعها فعل لن يكون إلا أحاسيس جوفاء وتخديراً لمواجهة عذابات الضمير.
إنه موت التعاطف الإنساني وسقوط الأخلاق في أرض العرب. إنه انتصار لرذيلة القسوة الشيطانية في النفس العربية.