قضايا ودراسات

فخ التطبيع مع «إسرائيل»

كمال بالهادي

في التاسع عشر من تشرين الثاني عام 1977، كانت تلك الزيارة التاريخية التي صدمت مشاعر العرب، وجعلتهم ينقسمون بين مؤيّد ورافض، إنها زيارة الرئيس الأسبق محمد أنور السادات للكنيست «الإسرائيلي»، وإلقائه خطاباً شهيراً فتح أبواب التطبيع مع العدو الاسرائيلي ، وأخرج مصر في ذلك الوقت، من حلبة الصراع مع «إسرائيل».
السياقات التاريخية لتلك الزيارة، ودور أجهزة المخابرات في التمهيد لتلك الزيارة، وموقف الولايات المتحدة، ودور الرئيس الروماني تشاوشيسكو في ترتيب اللقاءات السرية، باتت كلها من أوراق التاريخ التي يفرج في كل مرة عن جزء منها، ولكن ما يهمنا في هذه المرحلة هي نتائج تلك الزيارة التي خدمت «إسرائيل» من أوجه عدة. فهي هدفت لتقسيم الموقف العربي إزاء القضية الفلسطينية، وطريقة إدارتها. الهدف الثاني الذي حققه العدو من تلك الزيارة، هو إدخال القضية الفلسطينية في متاهات المفاوضات الطويلة التي خرج منها الاحتلال منتصراً في كل الحالات، فهو قد اكتسب مشروعية على الأرض التي وهبت له، وأنهى ذلك الشعار «وعد من لا يملك لمن لا يستحق». بل إن الكيان لم يكتسب مشروعية على الأرض فقط، بل أصبح هو المتحكّم في كلّ أوراق اللعبة التفاوضية.
قادة دولة الاحتلال عملوا على تجهيز أنفسهم، عسكرياً واقتصادياً وتقنياً ونووياً، حينما كان العرب يرفعون غصون الزيتون، وعندما تأكدوا من حدوث الفوارق الاجتماعية والسياسية، وأيقنوا من نجاحهم في تفريق العرب وتشتيتهم، انتقلوا إلى مرحلة شراء التطبيع، وإحداث اختراقات سياسية وثقافية، تجعل من «إسرائيل» دولة لا تشكل تهديداً لأي طرف عربي. والحقيقة أن السياسات التي انتهجها العدو قد نجحت إلى حد بعيد في تحقيق اختراقات جسيمة، ونزعت عن التطبيع حجاب القداسة والرفض اللذين كانا يمثلان صمام أمان عربي وآخر الحصون ضدّ تمليك من لا يملك.
بعد ربيع الخراب العربي الذي أجهز على ما بقي من شعلة متوهجة للقضية الفلسطينية، مر قادة «اسرائيل» إلى السرعة الخامسة في ما يتعلق بموضوع التطبيع وهم يتحدثون بلهجتين مختلفتين عن الحلفاء والأعداء في المنطقة العربية. ولعلّ تدوينات نتنياهو في ذكرى وعد بلفور، تلخص هذه الرؤية «الإسرائيلية» الجديدة لعلاقات الكيان مع العرب. ففي أحد التدوينات يقول رئيس حكومة الاحتلال «نعزز علاقاتنا مع العناصر المعتدلة في المنطقة، وكما أحللنا السلام مع مصر والأردن نسعى لإحراز سلام مع دول عربية أخرى تقف معنا ضد الإسلام المتطرف». ويؤكد قادة «إسرائيل» في أغلب تصريحاتهم أنهم باتوا قاب قوسين من «التطبيع الكبير» الذي سيجعلهم كياناً مقبولاً في شرق الوطن العربي وفي مغربه.
قادة «إسرائيل» يملكون مهارات كبرى في نصب الفخاخ، والتطبيع هو الفخ الجديد الذي يتم نصبه للدول العربية. لقد ظلت مسألة الاعتراف بدولة الاحتلال خطاً أحمر، جعل الوعد المشؤوم غير معترف به منذ قرن من الزمان. وربما يظل قرناً آخر غير معترف به، لأنه لا شيء يجبر العرب على التطبيع مع دولة غاصبة للأرض رافضة لعودة شعب مهجّر، وهي مستعدة لارتكاب جرائم ضد أي دولة عربية عندما تقتضي مصالحها ذلك.
الرهان على بعض الاختراقات الفنية والثقافية ، يحوله العدو إلى إنجاز تاريخي ضخم، فهو يسعى إلى تضخيم أصغر حدث، وتصوير ذلك على أنه تطبيع، صحيح أن دولة الاحتلال اغتصبت الأرض بقوة السلاح، وهمشت القضية بقوة النفوذ السياسي والتحالفات الدولية التي تعقدها مع القوى العظمى والتي تواصل تبني رؤيتها منذ وعد بلفور، ولكن كل ذلك لم يفتتت قوة الرفض العربية المعنوية على الأقل، ولم ينجح التطبيع في تحقيق الاختراق الكبير من أي باب دخل منه.
هناك رهان الآن على استثمار حالة الضعف والهوان العربيين، وعلى حالة الانقسام، لتحقيق ذلك التطبيع الذي تنتظره دولة الاحتلال منذ مئة عام. قادة «إسرائيل» يعترفون بأن لا شيء يعطى من دون ثمن، ففي واقع الأمر من يريد التطبيع مع «إسرائيل» وشراء أمنه عليه أن يدفع أولاً. رئيس الوزراء «الإسرائيلي» يقول «ندافع عن الدولة، ونحافظ على مبدأين بسيطين-الأول هو أننا نهاجم من يحاول أن يهاجمنا، والآخر هو أننا لن نعطي هدايا مجانية».

belhadikamel85@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى