قضايا ودراسات

في الذكرى الخمسين لانتصار حرب الاستنزاف

عوني فرسخ
انتصار «إسرائيل» العسكري السريع في يونيو/ حزيران 1967 بدا لصناع قرارها أنها امتلكت زمام المبادرة الاستراتيجية في الإقليم العربي، وحسمت صراع الوجود واللاوجود مع الأمة العربية. كما يستدل على ذلك مما كتبه حاييم هيرزوج في تقويم نتائج الحرب قائلاً: «بعد حرب الأيام الستة تغير الموقف الاستراتيجي لصالح «إسرائيل» تغيراً جذرياً. فلأول مرة في التاريخ أصبحت «إسرائيل» تتمتع بعمق دفاعي. وأصبحت الأوراق بيدها في شكل المناطق التي كانت تستخدم لنقاط انطلاق للهجوم على «إسرائيل»».
والذي لم يأخذه القادة الصهاينة في الحسبان أن نصر «إسرائيل» العسكري لم يترجم لنصر سياسي، وما كان له أن يحقق ذلك في مواجهة شعوب أمة غنية التراث الحضاري عرفت على مدى تاريخها العريق بقدرتها الفذة على النهوض من الكبوات، وإفشال هدف أعتى الغزاة بقهر إرادتها العصية على الاستلاب. وهذا ما تحقق فعلاً في اليوم الرابع من «حرب الأيام الستة» عندما خاطب الرئيس الراحل جمال عبدالناصر مساء 9 يونيو/ حزيران شعبه وأمته معلناً تحمله المسؤولية كاملة، وتنحيه عن جميع مناصبه الرسمية، واستعداده للعودة لصفوف الشعب لمقاومة الغزاة الصهاينة. وسرعان ما انتفضت جماهير مصر رافضة تنحيه، ومصرة على مواصلة الكفاح بقيادته. وكانت انتفاضة تلقائية كما أكد المراسلون الأجانب.
وتحت ضغط الجماهير وإصرار جميع أعضاء اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي ومجلس الوزراء، تراجع عبدالناصر عن تنحيه، ليبدأ وقد استقوى بالإرادة الشعبية مرحلة جديدة في حياة مصر والأمة العربية. إذ انطلق بسرعة وتصميم في عملية تطهير الجيش من القيادات التي ترهلت وفسدت، والبدء بإعادة بنائه من جديد بتعيين الفريق أول محمد فوزي قائداً عاماً للقوات المسلحة.
وحين أعلن عبدالناصر عن تنحيه كانت مصر قد خسرت كل شيء فوق أرض سيناء: السلاح والمعدات وآلاف الشهداء، ولم يعد لديها الجيش القادر على الدفاع عن أراضيها، ولا الغطاء الجوي الذي يحمي سماءها. إلا أن الرئيس الراحل كان يمتلك إرادة المقاومة، المعززة بإصرار شعب مصر على مواصلة القتال. وكان تقديره احتياج مصر لثلاث سنوات لاستعادة قدرتها. وقد تحددت رؤيته الاستراتيجية بأن مصر خسرت معركة ولم تخسر حرباً، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة، وأن الغاية هي استرداد الأرض العربية المحتلة بالعودة لحدود ما قبل 5 يونيو/ حزيران 1967، وإنشاء الوطن الفلسطيني.
وكانت معركة رأس العش في 1 /7 / 1967 باكورة المعارك الصغيرة في حرب الاستنزاف، وفي معارك 14 و15 /7 نجحت طائرات الميج 17 في تأمين منطقة قناة السويس، ما أعاد الثقة للطيارين المصريين بأنفسهم وسلاحهم، وأتاح للتشكيلات البرية استئناف مهامها في إعداد وتجهيز ودعم منطقة غرب القناة. وتوالت مؤشرات نجاح عملية إعادة بناء الجيش وكفاءة قياداته الجديدة بإغراق المدمرة «الإسرائيلية» إيلات مساء 21 / 10 / 1967.
وبرغم إنجازات الاستنزاف المضاد التي لا تنكر، والتفوق الجوي «الإسرائيلي»، والمدد الأمريكي المتزايد ل«إسرائيل»، استطاعت مصر المضي بحرب الاستنزاف والقيام بعمليات هجوم نشطة: بحيث أن الموقف المصري العام عند وقف إطلاق النار في أغسطس/ آب 1970 استجابة لمبادرة روجرز كان أقوى منه في أي وقت مضى، وبالمقابل كان الموقف «الإسرائيلي» أضعف منه في أي وقت مضى. وقد انعكس ذلك على صحف وقادة العدو، ففي 14 / 8 / 1970 كتبت صحيفة «دافار» تقول: «لقد أصبحت المبادرة الأمريكية وسيلة خلاص، لذلك ينبغي ألا نعرقل هذه المبادرة المباركة، ولنساعد الأمريكان على إخراجنا من الوضع المعقد الذي نحن فيه بسبب حرب الأيام الستة وحرب الأعوام الثلاثة. فإذا كان الأمر كذلك فإن سياستنا خلال الأعوام الثلاثة السابقة لم تكن إنجازات جديدة بل سلسلة من الأخطاء الصعبة التي أدت بنا إلى نتائج خطيرة للغاية، بدخول السوفييت إلى المنطقة. وإن كان الأمر كذلك فليس صحيحاً أن المصريين استنزفوا في حرب الاستنزاف وإنما نحن الذين استنزفنا ولذلك استجبنا للمبادرة الأمريكية»، وهذا ما يؤكده ماتي بليد، عضو هيئة الأركان «الإسرائيلية» في حرب 1967، الذي نقل عنه زئيف شيف المراسل العسكري لصحيفة «هآرتس» قوله: «لقد فشل الجيش «الإسرائيلي» من الناحية العسكرية في حرب الاستنزاف، وهذه أول معركة نهزم فيها منذ قيام الدولة. إن مصر هي التي حددت الأهداف في حرب الاستنزاف، وهي التي فرضت على «إسرائيل» الدفاع عن النفس».
وهذا ما لا تدركه النخب العربية المسكونة بثقافة الهزيمة، والتي لما تزل تبكي على أطلال نصر «إسرائيل» سنة 1967.Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى