قضايا ودراسات

في بلاد عظيمة

إذا أردت أن تعرف عن نقاء الأصوات والألوان والماء والحجارة والينابيع والأشجار.. فاسأل الجبليين.. هؤلاء الذين يسكنون في الريح، ولكن أقدامهم متصلبة في التراب الجبلي الذي يميل أحياناً إلى لون الذهب.

عرفت الجبال كاتباً وضيفاً وصحفياً في رأس الخيمة، وخورفكان، والعين (جبل حفيت)، وحتا، والفجيرة. رسوخ حجري يحيل إلى القوة والتماسك والثبات، رجال شجعان كُرماء يعيثون في الرؤوس العالية لهذه القامات الجبلية التي تنقل كبرياءها إلى الناس، صفاء في قلوب الجبليين، وفي لغتهم، وفي استقبالهم الحميمي للضيف، يفتحون قلوبهم قبل أبوابهم للقادم إليهم بقلم وورق لكي يكتب من ذات المكان، ومن روحه.
في أوائل التسعينات من القرن العشرين كان كاتب هذه السطور يعمل محرراً في التحقيقات الصحفية في مجلة «الشروق».. الروح المهنية الأولى التي تحمل روح تريم عمران، وعبد الله عمران.. الرمزين الماثلين في الذاكرة وفي القلب، ومن باب الفضول سأذهب إلى الجبال في مهمات عمل أخرى ذات طابع ثقافي، وسأقترح مبكراً منذ تلك السنوات إنشاء «تلفريك» في جبال رأس الخيمة، أي قبل أكثر من خمسة وعشرين عاماً.. وها هي الفكرة تتحقق اليوم.
عند خيوط الفجر الأولى، حيث تبدأ الشمس زيارتها لرؤوس الجبال، أي في تلك اللحظة المولودة من بقايا الليل وأول النهار تأخذ جبال رأس الخيمة بالتحول إلى تكوينات تشكيلية بالغة الشفافية، حيث يلتقي رأس الجبل مع وجه الشمس الوردي في أول الصباح، عندها تحيط بك حالة شعرية تماماً، فإما أن تمد يدك لكي ترسم أو تكتب.
الجبل ملهم، وأبوي، وشقيق أكبر للصحراء والبحر، يحتفظ دائماً ببيئته الجمالية، وسكان الجبال يستعيرون منها الصلابة والخفة والعنفوان، وأكثر ما يدهشك أن بعض الروايات الشعبية الشفاهية في الإمارات تفيد أن هناك من الجبليين من يستطيع أن يقص الأثر فوق الحجارة.
الجبال كريمة أيضاً بظلالها الوارفة المتحولة مع تحول الشمس، والجبال كريمة بالنحل، والعسل، والشجر الذي يعطي الخير والبركة والجمال.
الجبال.. ولاّدة الشعراء والحكماء والفرسان.. والرواة.. والجبال «سرديات» من الحجارة تغّني بينها الرياح وتضحك مساقط الماء، وتكبر أمومة الأشجار.
ينقل رسول حمزاتوف عن الجبليين في بلاده داغستان أنهم سئلوا مرة عن أعذب الأصوات؟
يقول حمزاتوف.. فكر الجبليون قليلاً ثم أخذوا يجيبون:
رنين الفضة..//.. صهيل الحصان..//.. صوت الفتاة..//.. المحبوبة..//.. وقع حوافر الخيل على صخور المضائق..//.. ضحكة الطفل..//.. غناء الأم عند المهد..//.. خرير الماء..//..
ما أعذب الأصوات؟.. هي كل هذه الأصوات معاً في جبال بلادي.. يقول الإماراتي وهو يتسلق شاهق الحجارة، ويمد يده إلى أبراج النجوم بكبرياء الفارس، وخفة الشاعر، وروحية الإنسان العظيم.. في بلاد عظيمة.
يوسف أبولوز
y.abulouz@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى