قضايا ودراسات

في كل شخص نعرفه

عبدالله الهدية الشحي

قال مصطفى صادق الرافعي: «ما دام أن لكل امرئٍ باطناً لا يشركه فيه إلا الغيب وحده ففي كل إنسان تعرفه إنسان لا تعرفه». وجاء في الأثر «أن رجلاً شهد عند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال له عمر: لست أعرفك ولا يضرك أن لا أعرفك فأتني بمن يعرفك، فقال رجل من القوم: أنا أعرفه، قال عمر: بأي شيء تعرفه؟ قال الرجل: بالعدالة والفضل، فقال أمير المؤمنين: هو جارك الأدنى الذي تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه، قال: لا، قال: فعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع، قال: لا، قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق، قال: لا، قال: إذن لست تعرفه ثم قال للرجل: ائتني بمن يعرفك».
رغم سهولة التواصل في عصرنا الذي نعيشه، ورغم إدراكنا للغة الجسد وامتلاكنا لمقومات الذكاء العاطفي، ورغم ابتكار أجهزة اكتشاف الكذب، إلا أننا لا نستطيع أن نعلم كل ما تخفي الصدور وما تحتوي الأفئدة وتكّن الأنفس، خاصة عند أولئك الذين يجيدون استخدام منطقة الذات المخفية ويستغلون القناع بحرفية تامة لدرجة أن بعضنا لا يكاد يعرف شيئاً عن خفايا غرضهم وواقع فعلهم، رغم تواجدهم المستمر بيننا وحولنا. ويزداد الأمر صعوبة إذا كانوا يروننا من مكان مرتفع صغاراً يسهل التأثير علينا، بينما يراهم بعضنا من مكان قريب كباراً؛ بل مشاهير كما سموهم حين نظروا إليهم بعين الإعجاب والانبهار فانساقوا خلفهم وخلف ما يروجون له انسياق القطيع الذي يجهل دربه. يحدث هذا؛ لأن القطيع المطيع لا يملك صفات الشخصية المكتفية، التي من أهمها عدم التأثر المبالغ فيه بما يقال والاستقلالية العاطفية والتحرر من سلطة أي شخص على تفكيره والقدرة على إسعاد نفسه.
كم هم عاطفيون أولئك الذين ضل سعيهم وراء مشاهيرهم الذين يجيدون استغلال المواقف الإنسانية ثم سرعان ما ينقلبون بعد تأثيرهم على القطيع بعملهم الخيري المؤقت والمؤطر والمبرمج «زمكانياً»، زماناً ومكاناً، إلى غايتهم الأهم وهي حب جمع المال والحصول على القناطر المقنطرة من الهدايا وعبارات الإعجاب، وكم هم فاقدو بصيرة مريدو بعض مشاهير وسائل التواصل الاجتماعي حين يتسببون في عرقلة حركة السير بسياراتهم وبتجمهرهم على سبيل المثال حول محل بيع «شاي الكرك» الذي تصور فيه وشرب منه مشهورهم هذا أو ذاك حتى وإن اكتشفوا أن كرك هذا المحل لا يلبي ذائقة تذوقهم. وليت الأمر يقف عند هذا الحد ولا ينتقل شيخ طريقة الدعاية المدفوعة الأجر في اليوم التالي إن لم يكن بذات اليوم إلى محل بيع أطباق الهريس أو إلى محل لا يكون بين نشاطه التجاري وتجارة الكرك أي علاقة سوى استفادة المصوِّر والمصوَّر معاً من جهة، وتجمهر مريدي المشهور في المحل الجديد والتنافس في الحصول على بضاعته والتقاط صورة تسحب بقية القطيع إلى هذا المحل، وتزيد من عدد متابعي مشهورهم وهم لا يعلمون بأن من أتى بهم، اللهم لا حسد، قد استفاد مادياً، وأفاد أصحاب المحال تحت شعار التطوع في المجال الاجتماعي، ففي كل شخص نعرفه فعلاً شخص لا نعرفه.
aaa_alhadiya@hotmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى