قبل مئوية ثورة 1919
عبد الله السناوي
لم يسِر تاريخنا الحديث من مرحلة إلى أخرى، ومن تطور إلى آخر بطريقة طبيعية.
كل ولاداته «عمليات قيصرية»، وكل هزائمه «عمليات إجهاض».
بعض الأسباب تعزى إلى التدخلات الخارجية الضاغطة على هذه المنطقة الحيوية من العالم، لكنه يصعب فهمها بالتدخلات الخارجية وحدها.
من طبيعة الأمور أن تكون هناك أكثر من قراءة للتاريخ، غير أن ثمة فارقاً بين أن تكون هناك قراءات مختلفة، من مواقع مختلفة، لأحداث التاريخ، وبين ردم التاريخ نفسه، وإهدار تضحياته الكبيرة، وإنجازاته المؤكدة.
تجاهلت ثورة (١٩١٩) أحمد عرابي، ولم تر نفسها امتداداً وتطويراً في ظروف مختلفة دولياً وإقليمياً لثورته التي جسدتها المؤسسة العسكرية المصرية الوليدة.
لم يرد اعتبار ثورة عرابي بصورة كاملة إلا بعد قيام ثورة (١٩٥٢).
لم تكن الثورة العرابية عملاً مثالياً، شأن أية ثورة أخرى، لكنها مثلت في زمانها رفضا للتمييز ضد المصريين، ومحاولة للانتقال من وضع إلى آخر أكثر عدلاً ومساواة.
بذات القدر تبدت مساجلات استهلكت زمناً طويلاً بين نقاد تجربة «أحمد عرابي» حول ثورة (١٩١٩).
تلخصت وجهة نظر «الحزب الوطني»، الذي أسسه «مصطفى كامل»، في حملات وانتقادات، بعضها صحيحة وموثقة لزعيم ثورة (1919) سعد زغلول، غير أن منهج النقد الذي اتبعه كتابه ومؤرخوه افتقد إلى حقيقة كادت تضيع في زحام التنافس السياسي، وهي أنه أعطى تلك الثورة الشعبية رمزيتها الملهمة وتجسيدها الحي.
عندما جاءت «لجنة ملنر» لتقصي آراء المصريين في الاستقلال كانت إجابة الفلاحين في الحقول واحدة: «اسألوا سعد باشا».
في تلك اللحظة الحاسمة من تاريخ مصر، وبعد أن انتهت الحرب العالمية الأولى ونداءات حق تقرير المصير يرتفع صوتها، تجسدت إرادة الاستقلال حول ذلك الرجل الستيني.
لا يمكن بأي حال إنكار شعبية سعد زغلول الهائلة وارتفاعه إلى مستوى الحدث التاريخي، فأغلب الانتقادات تنصب على مرحلة ما قبل الثورة لا ما بعدها.
كانت ثورة (1919) طلاقاً نهائياً مع «العثمانية»، وتوجهاً لدخول العصور الجديدة بهدفي «الاستقلال» و»الدستور».
بذات القدر كانت ثورة «يوليو» بزعامة جمال عبدالناصر استجابة أخرى لحقائق ما بعد الحرب العالمية الثانية في طلب الاستقلال الوطني والعدل الاجتماعي.
كما كانت ثورة «يناير» عام (2011) استجابة ثالثة لحقائق عصر المعلومات والاتصالات والسماوات المفتوحة، في طلب التحول إلى دولة ديمقراطية حديثة.
حجم التضحيات التي بذلها المصريون في ثورة (1919) مقاساً على عدد السكان وقتها شهادة على صلابة شعبها الذي خرج طالبا جلاء الاحتلال البريطاني.
لم تكن وسائل الإعلام الحديثة قد نشأت بعد، ولا عرفت مصر الإذاعة وقتها.. كانت الصحف الوطنية محدودة التوزيع والتأثير في مجتمع تتفشى فيه الأمية، ولكنه قرر أن يثور، وأن يدخل القرن العشرين من بوابة الاستقلال والدستور.
أحد أسباب السهولة النسبية التي اختطفت بها «يناير» أنها لم تدرك موقعها في التاريخ المصري، ولا تراكم خبرة ثوراتها.
السؤال الأول، في أية قراءة موضوعية ومنصفة لتاريخنا الحديث: أين المجرى الرئيسي؟
والسؤال الثاني، لماذا غاب عنه التراكم وتصادمت حلقاته؟ «مصطفى كامل» ضد «عرابي».. و»سعد زغلول ضد مصطفى كامل وعرابي.. وجمال عبدالناصر ضد سعد زغلول، حتى وصلنا إلى تصور أن «يناير» تناهض «يوليو»، رغم أن أهدافها العامة تكاد تكون طبعة جديدة في ظروف مختلفة لما طمحت إليه الثورة الأم، مع إضافة الحريات السياسية، ثغرتها الرئيسية.
الحقيقة، رغم أية مساجلات، أنها ثورة واحدة متعددة الحلقات، أضافت في العمق كل منها للأخرى ومهدت لها.
أسوأ ما في القصة كلها إهدار الإرث الوطني باختلاف مدارسه وتجاربه، وإهدار خبرة التاريخ نفسه.. وهو أمر انتهى بنا في نهاية المطاف إلى اعتلال في الذاكرة الجماعية، حتى كادت تبهت المعاني الاستقلالية الحقيقية التي تراكمت ودُفع ثمنها دمٌ.
ما تحتاجه مصر الآن بأكثر من أي توقع رد اعتبار الذاكرة الوطنية وتأكيد وحدة ثوراتها الحديثة، احترام التاريخ الوطني والاحتفاء بأحلامه وتضحياته التي دفع ثمنها غالياً واستخلاص الدروس الضرورية.
مئوية ثورة (1919) التي تقترب بعد شهور قليلة في مارس/ آذار المقبل فرصة لا يصح أن تفلت لتأكيد هذه القيم والمعاني في الذاكرة العامة.
تلك مهمة وطنية عامة لا تخص تيارا دون آخر.