قطر وأحلام الأوهام
سياسة قطر كانت، وما زالت، تتعارض وطبيعة الأشياء في المنطق، وتتعارض وأبسط قوانين الاجتماع والتاريخ؛ سياسة نابعة من هواجس خيال مريض، وانفجارات عاطفية، لكنها انفعالات مأساوية، ظلامية. وحين لا يدرك الإنسان مأساته فكل شيء في الحياة معقول؛ قالها أوديب، واكتشفها سيزيف، وهو يرفع الصخرة نحو قمة الجبل، ثم يتبعها نحو الوادي حين تسقط ليعاود الكرة. واللافت في مأساة قطر التمرد واللا مألوف في سياستها الخارجة عن الإجماع الخليجي، بإثارة القلق والمخاوف، عندما قام نفر من رجال السياسة والفكر، من الحاقدين على أبناء الخليج العربي، ووضعوا استراتيجية حاضنة للتمرد والثورة من خلال تهييج أبناء هذه الأمة باستخدام القنوات الفضائية، لاعتقادهم بأن ثمة ضرورات قصوى بلعب دور حصان طروادة؛ للوصول إلى نوع من الفوضى الخلاقة، كما بشرت كوندوليزا رايس، تفضي إلى القضاء على هذه الأوطان، وضرب عرض الحائط بقيم وصلات القربى، وإهدار طاقات الأمة في صراعات أزلية، تستنزف حيويتها في مزيج غريب من فوضوية وضبابية، بمزيج الفسيفسائي المتنافر داخل إطار انتزاعية عدمية تهدم كل شيء، وتعجز عن بناء أي شيء، مع الاستهزاء بالقيم والمثل العربية في سلوك شوفيني، يجسد المشاريع العدائية للقيادة القطرية في التحالف مع التنظيمات المتطرفة، والتودد إلى دول معادية تعمل على بث الفتنة وتخريب المنطقة. للأسف، فقد ادعت قطر أن الهدف من مقاطعتها هو إجبارها على التخلي عن سيادتها، وقرارها المستقل.
وفي خطوة تعكس مدى التحدي لدى القيادة القطرية، فقد كشفت عما تسمي نفسها «اللجنة القطرية لحقوق الإنسان»، اعتزامها التعاقد مع مكتب محاماة دولي في سويسرا، للمطالبة بتعويضات للمتضررين من الحصار الخليجي. وقال رئيس اللجنة، إن اللجنة تلقت، حتى الآن، ألفين و451 شكوى عن انتهاكات حقوقية وإنسانية، جراء سياسات الدول المحاصرة لبلاده. ولعل السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: أين ستقام تلك الدعاوى المزعومة؟ وما هي التهمة التي ستُوجه إلى الدول المقاطعة لقطر؟ وفي الواقع لا توجد محكمة في أي مكان في العالم، لها صفة الولاية الدولية، سوى محكمة الجنايات الدولية، ومحكمة العدل الدولية، والمحكمة الأولى تختص بجرائم الحرب والعدوان والإبادة الجماعية، كما أنها لا تقبل أن تقدم أمامها أية دعوى إلا بعد موافقة مجلس الأمن الدولي عليها، أما محكمة العدل الدولية فهي مختصة بالنزاعات بين الدول المختلفة.
وباستثناء هاتين المحكمتين، فإن محاكم كل دولة تنظر في القضايا التي تقع فيها؛ سواء من قبل رعاياها، أو من قبل غيرهم. وفي عام 1993 أقر البرلمان البلجيكي قانون الصلاحية الكونية لجرائم الإبادة، الذي سمح بمقاضاة المتورطين في جرائم إبادة، وجرائم ضد الإنسانية في بلجيكا بغض النظر عن وجودهم فيها، أو جنسياتهم.
وفي سبتمبر/أيلول 2001 تقدم المتضررون من جرائم الإبادة الجماعية «الإسرائيلية» في مخيم صبرا وشاتيلا الفلسطيني في لبنان عام 1982، بدعوى ضد مجرم الحرب الصهيوني أرييل شارون. ما أثار في حينها ضجة سياسية، وأزمة دبلوماسية بين «إسرائيل» وبلجيكا، فعمدت الأخيرة إلى تعديل قانون الصلاحية الكونية لجرائم الإبادة، فتم تحويل تلك الدعوى إلى سلة المهملات.
ولا شك في أن الدعاوى المزعومة التي أوكلت قطر رفعها إلى مكتب محاماة دولي في سويسرا، لن ترى النور، لأنها تفتقد أولاً إلى الأساس، فمثلاً: ما هو مضمون هذه الدعاوى؟ وما هي التهم التي سيتم توجيهها إلى الدول المقاطعة؟ وإذا كان هناك تهم مختلقة وجاهزة لما يسميه القطريون انتهاكات، فهل هناك أدلة وقرائن وشهود، يؤكدون وقوع تلك الانتهاكات المزعومة؟ وأيضاً أين ستقام تلك الدعاوى؟ فمن المؤكد أنه لا توجد محكمة يمكن أن تقبل النظر فيها إلا في قطر، فهناك يستطيع القطريون أن يقيموا ما يشاؤون من دعاوى، لكن ما قيمتها؟ وكيف يمكن تنفيذها؟
إن الحديث عن تلك الدعاوى المزعومة من قبل النظام القطري، هو محاولة للادعاء بأن مواطني قطر يتعرضون لانتهاكات حقوقية وإنسانية، في مسعى للفت انتباه الرأي العام الدولي. لكن حتماً لن تنجح تلك المساعي، وليس أمام قطر من خيار سوى التخلي عن عنجهيتها الفارغة التي لن تجني منها شيئاً سوى الخيبة والبوار.
ولن تستطيع قوة في العالم تغيير مجرى الأحداث لمصلحتها، ليس لأن الدول المقاطعة لها تملك مفاتيح القوة الدولية، بل لأنها تستند إلى الحق، وما أقدمت عليه من خطوات تجاهها، إنما ينسجم مع الشرائع والمواثيق والأعراف الدولية، فالمقاطعة هي أسلوب تتبعه الدول المختلفة تجاه بعضها بعضاً للحصول على تنازلات، فمثلاً: قاطعت الولايات المتحدة الصين الشعبية منذ الانتصار الشيوعي فيها عام 1949، ولم تعترف بها حتى، بل كانت تعترف بتايوان كممثل وحيد للشعب الصيني، ومن ثم عندما حصل توافق في السياسات بين الدولتين، قام الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بزيارة إلى بكين في فبراير 1972، مفتتحاً فصلاً جديداً في علاقة بلاده مع تلك الدولة، وإثر ذلك سحبت الولايات المتحدة اعترافها بتايوان واعترفت بالصين الشعبية، وتم منحها مقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي. ولم نسمع يوماً أن الصينيين أقدموا على رفع دعاوى ضد الولايات المتحدة، رغم الضرر الهائل الذي ألحقته بهم على مدى أكثر من عشرين عاماً. لكن يأبى قادة قطر إلا أن يظهروا جهلهم السياسي، لكن فليدفعوا مالاً لمكتب المحاماة السويسري، وليوكلوا ما شاؤوا من محامين، فإنهم في النهاية، سيكتشفون أنهم يبحثون عن السراب والإخفاق.
محمد خليفة
med_khalifaa@hotmail.com