كيان متغطرس وأمة متهاوية
ترافقت الأحداث الأخيرة في القدس المحتلة مع وقائع مهمّة جداً، يجري ترتيبها لما بعد مرحلة «داعش»، ويبدو من خلال الاتفاقات المعلن عنها، أو من خلال التصريحات الإعلامية لقادة القوى العظمى، أن ما يسمى «الربيع العربي» الذي لم تشر بوصلته يوماً إلى القدس، لم يكن سوى موجة عنف دمّرت في سيلانها الجارف دولاً وشعوباً عربية، وأبقت الكيان الصهيوني، كياناً محمياً، يحسب له حساب في كل خطوة يقع ترتيبها الآن.
دولة الاحتلال، أصبحت أكثر قوة، فهي لم تمسسها شرارة واحدة من بركان ها «الربيع» المدمّر، ولم يمسسها رمح واحد من رماح الظاهرة «الجهادية» ومن «دولة الخلافة» المزعومة، التي ذبحت وقتّلت وشرّدت الآلاف من العراقيين والسوريين. وفي الوقت الذي ينبري فيه العراقيون لعدّ قتلاهم ومفقوديهم وحصر خسائرهم المادية في الموصل، في انتظار كشف حساب للأحداث الجارية في سوريا وفي ليبيا واليمن، قامت دولة الاحتلال بإغلاق المسجد الأقصى في خطوة لم تجرؤ عليها منذ العام 1967، وهو ما يعبّر عن أن حكومة نتنياهو، لم تعد تعطي اعتباراً لمشاعر المسلمين، ولا لمقدساتهم، فهي في موقع قوة، والأمة العربية تهاوت، على رؤوس ساكنيها. وما يزيد الغبن في هذه المرحلة أن إغلاق المسجد الأقصى على خطورته، لم يحرّك الشارع العربي ولا الأنظمة التي كانت ردود أفعالها ضعيفة في مجملها. ولكن حادثة إغلاق المسجد الأقصى، تزامنت مع اتفاقات وتفاهمات لما بعد مرحلة «داعش»، ظهرت فيها دولة الاحتلال كمهندس وطرف رئيسي في الترتيبات الجارية للمنطقة في المستقبل.
النقطة الأولى الواجب الإشارة إليها هنا، أن تفاهمات ترامب – بوتين والتي سبقتها تفاهمات كيسنجر- بوتين، أخذت بعين الاعتبار مبدأ حماية أمن «إسرائيل» الذي يظل خطاً أحمر، في أي وضع جديد وترتيبات لما بعد نهاية الحرب في سوريا. ومن بين هذه الاتفاقات، منع إيران وحزب الله من الاقتراب من حدود فلسطين المحتلة، والتنصيص الواضح على عدم المس بأمن دولة الاحتلال من أي جهة كانت. وطبعاً فإن هذه التفاهمات ليست مطروحة للنقاش، بل هي تفاهمات للتنفيذ غير المشروط، وما على بقية الأطراف سوى الانصياع، وتنفيذ ما هو مطلوب منها.
النقطة الثانية، التي وجبت الإشارة إليها، تتعلق بتصاعد موجة الحديث عن التطبيع مع دولة الكيان، في نفس الوقت الذي تقوم فيه بإغلاق المسجد الأقصى، والولايات المتحدة في مناقشاتها مع الدول العربية باتت تطرح مسألة التطبيع مع الكيان، على الطاولة وعلى العلن، دون أي مواربة أو خوف من ردود أفعال عربية. والحقيقة أن الأمة العربية هي في مرحلة ضعف غير مسبوق، ولم يعد هناك طرف عربي يغامر بإغضاب القوى العظمى، أو تحديها في أي من الملفات التي كانت لديها ذات يوم حساسية لدى الرأي العام. وخلال زيارة رئيس الحكومة التونسية للولايات المتحدة، منذ أيام قليلة تمت مطالبته بصريح العبارة، بعدم التعرض ل «إسرائيل» وبما يسيء إليها، في أي موقع كان، إن كانت تونس تريد الاستمرار في الحصول على مساعدات أمريكية. ويثار جدل كبير حول مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني هذه الأيام في تونس وسط صمت حكومي مطبق حول هذه المسألة الحساسة.
النقطة الثالثة تثبت أن ردود فعل الشارع العربي، الذي كانت فلسطين بالنسبة إليه قضية وجدانية، غير خاضعة للحسابات، باتت هي أيضاً سلبية، ويمكن القول إن الشارع العربي بات غارقاً في همومه الداخلية وغير قادر على الاطلاع على ما يجري حوله. وذلك هو الخطر الحقيقي، فإن كانت الأنظمة تمر بمرحلة قوة أو ضعف فذلك أمر طبيعي، أما أن يقع اجتثاث القضية الأم من وجدان الشعب العربي، فذلك هو الخطر، وذلك أهم دمار خلّفه «الربيع العربي».
النقطة الرابعة، تأتي من فرنسا، فحضور رئيس حكومة الاحتلال في احتفالية في فرنسا لإدانة ضحايا المجازر النازية إبان الحرب العالمية الثانية، اقترن باعتذار فرنسي مباشر واعتراف بمسؤولية الحكومة الفرنسية الموالية للنازية في ذلك الوقت، عن الجرائم التي ارتكبت في حق اليهود آنذاك، واعتذر رئيس فرنسا عن تلك الأحداث المعادية للسامية. ولكن فرنسا لم تعتذر عن حقبتها الاستعمارية في الجزائر وفي دول المغرب العربي، ولم تعترف بمسؤوليتها عن المجازر التي راح ضحيتها الملايين من الأبرياء العرب في المغرب العربي الكبير، ولم تعترف بجرائم فرنسا في حق الشعوب العربية، وهي أكثر عدداً من يهود العالم مجتمعين. هنا يتضح الفرق في موازين القوى، فالكيان من خلال لوبياته النافذة، يشكل قوة يحسب لها حساب في كل خطوة دولية يتم التخطيط لها. أما العرب فلا مكان لهم في موازين القوى هذه، ولا اعتبار لأي مصدر من مصادر قوتهم.
الآن، ستنتهي ورقة «داعش»، لتترك وراءها خراباً ودماراً هائلين وانقسامات عربية لا يمكن رأبها في وقت قريب، فإعادة إعمار البنية التحتية قد تكون أيسر بكثير من إعادة لم شمل البيت العربي تحت سقف واحد، وهذا سيعني منطقياً أن القضية الفلسطينية قد فقدت أي حضانة عربية لها، سواء رسمية أو شعبية. زد على ذلك أن الفلسطينيين أنفسهم قد أصابهم داء الانقسام، ولا يتضح في المستقبل القريب أي أفق لمصالحة على الحد الأدنى من المطالب الوطنية، وهذه الأوضاع، هي حقائق بيّنة لحكومة الاحتلال التي تسارع النسق لتهويد ما تبقى من القدس من أجل ضمها نهائياً، وجعلها عاصمة أبدية لها. «الربيع» الذي لم يشر يوماً إلى القدس، بوصلته مشبوهة، ومهندسوه كانوا يريدون الوصول إلى النتائج المتحققة على الأرض الآن.
كمال بالهادي
belhedi18@gmail.comOriginal Article