قضايا ودراسات

«لا تشكي لي أبكي لك!»

ما أكثر الشاكين والباكين في أقطارنا العربية، بل ما أكثر الأقطار العربية الشاكية الباكية، وما أكثر الحزانى والمتألمين والباحثين عن إجابة للسؤال العادي والبسيط الذي تطلقه المرحلة الراهنة ويكاد يكون على كل الشفاه، شفاه الأطفال وشفاه الكبار. وهو: لماذا كل هذا الاحتراب وهذا الدمار؟ وأي شيطانٍ لعينٍ هو هذا الذي يوسوس في صدور ناقصي العقول وفاقدي الضمائر بأن يسترسلوا في قتل بعضهم بعضاً والوصول بحروبهم غير المشروعة إلى درجة الإبادة، وإحراق الملايين بنيران حروب عبثية لا معنى لها ولا هدف ؟؟
هناك شعوب كثيرة على وجه هذه المعمورة كانت تعاني الفقر وتعاني الانقسامات العرقية والدينية ولكنها عرفت كيف تتجاوز خلافاتها ومشكلاتها بالاتجاه نحو العمل ومواجهة علة العلل وهو الفقر، ولم تترك فرصة أو مجالاً لفتح ثغرة ما في سور الوحدة الوطنية والانتماء القومي، ولهذا فقد نجحت في برامجها كما نجحت في أن تكون في الصدارة تقدماً واستقراراً.
لا أريد أن يأخذني شطط الانفعال بعيداً فأقول إن ما يحدث في بعض أقطارنا العربية ما هو إلاَّ التعبير العملي والواقعي عن رغبة دفينة في أعماق بعضهم لتدمير الكائن البشري في إنسانيته الخالصة، فأي إنسان هو ذلك المخلوق المتوحش الذي يقتل أخاه ويقتله أخوه تحت مزاعم تفتقد إلى أبسط المقومات الدينية والأخلاقية والوطنية. في حين أن أمام المختلفين ألف طريق وطريق لمواجهة ردود أفعال الخلافات بعيداً عن الحرب والاقتتال والاسترسال في الإبادة.
ويمكن القول إنه في الأزمنة الغابرة، أزمنة ما كان يسمى بعصر الغاب وقبل أن تبدأ مرحلة الأنسنة وتذويب مشاعر التوحش، ويبدأ الإنسان في اكتشاف وسائل العيش المشترك، كان ما يفعله إنسان الغابة مبرراً بمنطق اللاَّ قانون واللاَّدين واللاَّ أخلاق واللاَّ قيم، أمّا بعد آلاف من السنين عرف الإنسان خلالها الدين والتعايش وخرج من عزلته القاسية فإن العودة إلى أساليب الغاب لا يحطم القيم والمعاني الكبيرة فحسب وإنما يحطم الإنسان نفسه.
ولهذا لا أعتذر عن الكلمة الشاكية الباكية هذه التي تنزّف ألماً من خلال رؤيتها لما يَنزّف من دم وما يتساقط من جثث، وأصدق الكلام – في ظروف عابسة كهذه – هو هذا الذي يسجل ما يرى أو بالأصح ما يراه صاحبه، وخير من الشكوى والبكاء في زمن الانتحارات العامة أن نعطي للكلمة حريتها أو بعضاً من هذه الحرية لنقول ما تعجز عن قوله الشكوى ويعجز عن قوله البكاء.
ذلك بعض ما أقوله للأصدقاء الذين يمنحونني ثقتهم بالإصغاء إلى شكاواهم عبر الهاتف ومنهم صديقان عزيزان من قطرين عربيين غارقين في بحر من الدماء والصراعات التي بدأت ثانوية وغير ذات أهمية وصارت حريقاً يشارك فيه قليل من الأصدقاء وكثير من الأعداء، وبعد أن قلت لكل من الصديقين «لا تشكي لي أبكي لك» أضفت قائلاً إن واجبنا يقتضي منّا شيئاً آخر غير الشكوى وغير البكاء، وهو تدوين ما نشاهده بأعيننا من فظائع لا تحتمل، ومن حروب لا تنتهي إلاَّ لتبدأ وترفع الصوت احتجاجاً واستنكاراً مهما بدت الاستجابة مستحيلة.
إن المتفائلين والذين يعيشون منهم في مناطق نائية عن الحروب يقولون إن الإنسان في حالة تطور يواصل رحلته نحو الأجمل والأروع من المستحدثات التي من شأنها أن تجعل الحياة آمنة وسعيدة. ربما شاهدوا على شاشة التلفاز صوراً لمئات الآلاف ممن يلقون حتفهم في الحروب البعيدة عنهم والقريبة منا، وهم لذلك لا يستطيعون أن يتصوروا وجودهم وسط مناطق ومدن وقرى تعاني آلاماً تعزّ على الوصف. ولهذا وذاك فإن ركوننا إلى ما يسمى بالرأي العام العالمي ليس إلاَّ ضرباً من خداع النفس والبحث في السراب عن الماء. المأساة إذن تقع في أرضنا ونحن وحدنا من يتجرع ويلاتها، وعلينا وحدنا أن نتحمل النتائج وأن نبحث عن حلول تسبق انتشار النار إلى بقية الأقطار العربية مسلحين بمنطق الحكمة التي تقول: لا توجد مشكلة في الحياة مستعصية على الحل.
د. عبدالعزيز المقالح
abdulazizalmaqaleh@hotmail.comOriginal Article

زر الذهاب إلى الأعلى