قضايا ودراسات

مأساة العرب في عالم متصارع

محمد خليفة
مشاعر الحزن الطبيعي، والحزن بشتى أنواعه عموماً، أصبحت تموج على أتون الرصيف العربي، نتيجة الاكتئاب والخوف والقلق حتى تحول الألم نتيجة هذه الأحزان إلى أكثر الأمراض النفسية شراسة، وأثر بصورة سلبية على حياة الإنسان العربي حتى جعله يخلع أضراس الأرض، التي نخرتها مقابر الفتنة من أصابع الفوضى على جميع مناحي الحياة. ويمكن اعتبار هذه الأعوام الأخيرة هي الأعنف في حدود مظاهر الحزن والألم التي اجتاحت هذه الشعوب، حتى أصبح هذا المخلوق المكتئب يحمل الكثير من الصفات المتناقضة الناجمة عن شظف العيش والفقر، ونيران القتل والتدمير.
تلك الظروف القاسية في بعض البلدان العربية جعلت الإنسان في حالات من الهروب الجماعي إلى اللاوعي، فاستحوذت على عقله الباطن، ما أدى بالتالي إلى اكتشاف الكثير من الحقائق عن نفسه، وكأنه عاد إلى كهوف العصور الوسطى، يتنقل عن ظهور القوافل، يجري هنا وهناك وراء قطرة ماء تروي ظمأه، أو كلأ يرعى غنمه، وكأن وطنه ليس بمصطلح جغرافي، أو رقعة أرض عاشت وتعيش عليها أمة ذات رسالة وتراث وحضارة.
تعيش بعض الشعوب العربية، في عصر التكنولوجيا، في حالة أقرب إلى عصر البداوة، حيث لا يوجد كهرباء ولا ماء ولا أمن، في مثل هذه الأوطان يدفع الأطفال الثمن الباهظ، يعيشون اضطرابات نفسية، وانحرافات سلوكية. وتزداد مخاوفهم نتيجة أصوات انفجارات القنابل واستخدام السلاح من قبل ميليشيات الحوثي.
في حوار تلفزيوني بثته إحدى المحطات عن الأوضاع الصحية في اليمن تحدث أحد الأشخاص قال: «ليس لنا مصدر دخل، لقد تفاقمت علينا الأمراض نتيجة تلوث مياه الكوليرا». وتتساقط الدموع وتتجمد الكلمات فوق شفاه هذا المكلوم، والدموع تترقرق على خده، وهو ينظر إلى ابنه المريض نتيجة تلوث المياه، ودخان الحرائق، والجثث المتحللة، والحيوانات النافقة حتى انتشر هذا المرض اللعين، في حين حذر مدير صندوق الأمم المتحدة للسكان من أن تفشي وباء الكوليرا في اليمن يهدد حياة مليون امرأة حامل من المصابات بسوء التغذية، ولفت إلى أن النساء الحوامل اللواتي يعانين سوء التغذية هن أكثر عرضة للإصابة بالكوليرا ولخطر النزيف والموت أثناء الولادة.
هذا هو حال الإنسان العربي البائس، اتسعت الهوة العقلية والنفسية في واقعه، ولم تقتصر معاناته على الجوع والفقر والقتل والتي تكفي إحداها لتعصف به، بل تداعت المشاكل الواحدة تلو الأخرى، من كل صوب وحدب، لتحل بثقلها وهمومها على كاهله. إن مأساة الإنسان تكمن في تعرضه للظروف القاسية، سواء أكانت ظروفاً سياسية، أو أمنية، أو اقتصادية. نجمت بسبب علاقة الأمم ببعضها البعض، وبما تبرمجت به تلقائياً بعلاقة عاطفية، وليس علاقة عقلانية. لقد استُخدِم العقل في بعض هذه البلدان لتبرير وتسويغ ثقافة القهر والاستبداد، حتى تم ترسيخ هذه السياسة.
وبهذه الطبيعة تكونت الأهواء والأوهام والخرافات والمخاوف. وبرز الخيال المحروم من الحق والمعرفة المحققة، حتى تم نسج وشائج متينة بين الهوية والعنف، شاعت في نشر مجموعة من الأفكار المتطرفة؛ لتكون في متناول أولئك البائسين من أبناء هذه الأمة العربية، الذين يعيشون اليوم في خضم جدل واسع بين قضايا المعتقدات والمجتمع، وأشكال العلاقات التي يقيمونها مع أنفسهم، بعد أن تهيأت الأزمة السياسية، بخلفيتها الإيديولوجية، التي شهدها العالم في هذه السنوات، أدت إلى توفير مناخات مناسبة لتصاعد التطرف بأشكاله العديدة وصيغه المتنوعة. ويتجلى ذلك في مظاهر عديدة كالاعتداءات التي حدثت في تفجير مانشستر بواسطة الانتحاري سلمان عبيده، وأسفر عن سقوط 22 قتيلاً يوم الاثنين، وتبنى تنظيم «داعش» التفجير الإرهابي. غير أن حجم ضحايا التعصب والتطرف لم يبلغ في أي موضع من العالم ما بلغه في العالم العربي. كما تشهد ذلك الوقائع في العراق وليبيا وسوريا على وجه الخصوص. هذا التمزق تحول إلى ممارسة إيديولوجية يميلها منطق الصراع، والآليات اللامعقولة والممارسات المشبوهة في ثقافة الآخر.
وتتمثل مأساة الإنسانية التي تكافح عبثاً بغية السيطرة على مصيرها في عالم يبدو في كل حال صائراً إلى الخراب، وبالتالي يتبدى عالم الإنسان العربي في نظر الحضارة الغربية، وفي حقبتها الحالية عالماً فاقد الإحساس باتجاه الحياة ودراما الوجود الكبرى. مع أن الأمة العربية تملك وحدة العفة التي تصنع وحدة الفكر والعقل، وتملك أيضاً وحدة التاريخ التي تصنع وحدة الضمير والوجدان، وتملك وحدة الأمل التي تصنع المستقبل.

med_khalifaa@hotmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى