قضايا ودراسات

ما بعد الموصل.. «داعش» و«الداعشية»

د. عبد الحسين شعبان
من السابق لأوانه القول إن هزيمة «داعش» في الموصل هي نهاية له، على الرغم من الجانب الرمزي في سياق مواجهة التنظيم الإرهابي. والأمر له علاقة بأسباب داخلية وأخرى خارجية، وله أبعاد فكرية ودينية وطائفية وسياسية واقتصادية واجتماعية وقانونية وتاريخية وتربوية ونفسية، أي أنه يتعلق بمجمل الأوضاع التي أدت إلى نشوء التنظيمات الإرهابية، ابتداء من تنظيم القاعدة ووصولاً إلى تنظيم «داعش». وبقدر ما هناك بيئة عراقية ساعدت على نشوئه، فهناك فضاء إقليمي ساهم في انتشار فيروسه، وتأمين حركته وانتقاله، مستفيداً من أوضاع دولية وإقليمية.
وإذا كان دخول الجيش العراقي جامع النوري الكبير الذي أعلن منه أبو بكر البغدادي دولته في يونيو/ حزيران العام 2014، قد طوى صفحة من صفحات التنظيم، فإن صفحات أخرى، ربما أهم بحاجة إلى أن تطوى تماماً، ليُصار إلى إغلاق هذا الملف كليّاً والتخلّص من تبعاته وآثاره، وقد يحتاج الأمر إلى وقت وجهد لا يمكن الاستهانة بهما لتحقيق هذا الهدف. والأمر لا يتعلق بالعراق فحسب، بل في سوريا أيضاً حيث تتزامن المعارك لتحرير الرقة من قبضة «داعش»، وفي بقية المناطق والبلدان التي عمل فيها «داعش» ولا يزال، مثلما هناك بلدان أخرى لديه فيها خلايا نائمة حتى وإن لم تظهر إلى العلن أو أنه لم يقرّر تنفيذ عمليات إرهابية مباشرة فيها، لكنها تعتبر ممرّاً وعيناً ومموّلاً له.
لم ينشأ «داعش» من فراغ، بل هو حصيلة ثقافة سائدة بأشكال مختلفة سيطرت على عقول شباب يائس جرت عملية غسل دماغ لهم بشكل منهجي طوال عقود من الزمان، ووجدت ضالتها في الأوضاع المعيشية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، حيث الفقر والجهل والأمية وشحّ الحرّيات والتمييز، إضافة إلى الإذلال الذي تعرّضت ولا تزال له شعوب بكاملها جراء اختلال نظام العلاقات الدولية، وكل ذلك أوجد مناخات لانتعاش الإرهاب وتفقيس بيضه، لاسيّما بفشل الدولة الوطنية ما بعد الاستقلال في العديد من دول المنطقة وعدم قدرتها على إنجاز مهمات التحرر الوطني وتحقيق التنمية المنشودة بمختلف جوانبها، يضاف إليها دور العنصر الخارجي والتدخّلات الأجنبية والحروب والاحتلال والعدوان المستمر.
ولعبت المدرسة بشكل عام والمناهج التربوية بشكل خاص، إضافة إلى بعض المؤسسات الدينية وبعض رجال الدين بخطابهم الماضوي الإلغائي إزاء الآخر، دوراً سلبياً في نشر أجواء التشدّد والتعصّب المنتجة للتطرّف، وهذا الأخير حين يتحوّل من الفكر إلى الممارسة، ينتج عنفاً وإرهاباً، كجزء من عقيدة استعلائية تدّعي امتلاك الحقيقة والأفضلية بالتعكّز على الدين وزعم القرب إلى الله، الأمر الذي ساعد في سيادة الخطاب الآحادي والتفسير «الإسلاموي»، باعتباره مقدساً وغير خاضع للنقاش والجدل، علماً بأنه مجرد اجتهاد فقهي قابل للخطأ والصواب.
هكذا نمت «الداعشية» في إطار المنظومة الثقافية السائدة، خصوصاً بضعف المواطنة أو الشعور بها وغياب أو شحّ مبادئ الشراكة والمشاركة والمساواة والعدالة الاجتماعية التي هي أركان أساسية للمواطنة، فما بالك حين تمارس سياسات تمييزية وانتهاكات لحقوق الإنسان.
والآن كيف يمكن أن تسهم عملية تحرير الموصل في دحر «داعش» والأهم من ذلك في القضاء على «الداعشية» كفكر إرهابي، إقصائي، استئصالي متطرّف وضد قوانين الطبيعة والمدنية والعصر؟ ف «الداعشية» لا تزال تمتلك تأثيراً آيديولوجياً على قطاعات يائسة من الشباب لشعورها بالتمييز والقنوط وانعدام الأمل. وحتى من الناحية العسكرية والسياسية ف «داعش» ما زال يهيمن على مناطق أخرى مثل قضاء تلعفر القريب من الموصل وصحراء نينوى والأنبار، إضافة إلى قضاء الحويجة وقضاء الشرقاط والشريط العمراني الواصل بين قضاءي حديثة والقائم على الحدود العراقية – السورية، وذلك بالطبع يحتاج إلى جهد مركّب ومتنوّع بما فيه حملة دعائية وفكرية ضده بمنظومة قيمية نقيضة له.
صحيح أن هزيمة «داعش» العسكرية في الموصل ستنعكس إيجاباً على المعارك التي ستدور في هذه المناطق على الرغم من استحقاقات كل واحدة منها، الأمر الذي يتطلّب جهداً عسكرياً واستخبارياً وأمنياً مكثّفاً دقيقاً وهادفاً للحفاظ على أرواح وممتلكات المدنيين، إضافة إلى جهد ثقافي وتربوي وديني واقتصادي واجتماعي لمواجهة الفكر «الداعشي» و«الداعشية» عموماً، خصوصاً بتفكيك خطابها وعناصر فكرها وفقاً لمنهج متسامح وإنساني وعصري.
إن القضاء على «الداعشية» يحتاج إلى مشروع بديل، بحيث يتكرّس الانتصار الفكري استراتيجياً بمختلف الجبهات والميادين ليستطيع أن يحلّ محلّ «داعش» و«الداعشية»، والمدخل إلى ذلك في العراق هو سرعة إعادة بناء ما خرّبته الحرب وإعادة النازحين إلى مناطقهم وتعويضهم، والشروع في تنمية البلاد وفق خطط مدروسة ومتدرّجة، وحل مشكلة المناطق المتنازع عليها بتطبيق المادة 140 من الدستور، وبالطبع، فالأمر يحتاج إلى توفّر إرادة سياسية موحدة وتحقيق مصالحة وطنية حقيقية، وإعلاء شأن المواطنة كقيمة عليا خارج نطاق نظام المحاصصة الطائفية – الإثنية ووضع حد لظاهرة الفساد، الوجه الآخر للإرهاب، فذلكم هو السبيل للقضاء على «الداعشية».Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى