قضايا ودراسات

ما على قطر أن تفعله

إذا كان من عنوان للأزمة السياسية المستفحلة بين قطر وثلاث دول خليجية ومصر، فهو التدخل غير المشروع في الشؤون الداخلية للدول العربية، ورعاية الجماعات الإرهابية في البلدان تلك. وكم كانت قطر في غنى عن أن تجد نفسها في هذه الحال من العزلة، الإقليمية والعربية، لو أنها تصرفت بما يناسب حجمها كدولة صغيرة لا تملك أن تطرح على نفسها من المهمات والأدوار الخارجية ما ينوء بحمله حجمها الصغير المتواضع ذاك، أي- أيضاً- لو تصرفت بما يناسب مقتضيات احترام سيادات الآخرين بما هو الضامن الوحيد لاحترام الآخرين سيادتها. وليس يعرف، على القطع، إن كانت – سياسات قطر- التي تدفع اليوم ثمنها عقوبات وعزلة- تولدت بوحي من خياراتها المستقلة ولغرض أداء أدوار تتصور نفسها جديرة بأدائها فعلاً، أم أتت عملاً بأوامر قوى كبرى تكل إليها أمر أداء تلك الأدوار نيابة عنها. إن كان الأمر في هذا إنما مأتاه من أوهام القوة الذاتية والجدارة فتلك مصيبة، وإن كان مما يؤدى على مقتضى السخرة للآخرين فالمصيبة أعظم.
كتبنا في هذا المنبر، ولمرات عدة بمناسبة ما أطلقوا عليه اسم «الربيع العربي»، ما مفاده أن الدائرة تدور على كل من سلك نهج التدخل السافر في الشؤون الداخلية لشقيقه العربي، وسيادته، ولكل من رعى معارضة غيره، وأغدق الدعم على جماعات السلاح والإرهاب في البلدان التي يخاصم أنظمتها. ونبهنا، مراراً، على أن من أتى مثل هذه السياسات الخرقاء سيلحقه العقاب بمثل ما هو عاقب الغير، وقد تنتقل الفوضى -التي رعاها في الخارج- إلى داخله فيتأذى منها بمثل ما آذى الآخرين. وقلنا، في جملة ما قلناه، إن المال سلطة في عالم اليوم، وقد يكون مفيداً، بل قطعاً هو مفيد، ولكنه ليس مفتاحاً لكل شيء ولا يمكنه أن يعوض عن غياب موارد القوة الاجتماعية، والبشرية، والعلمية، والعسكرية… والجغرافية التي بها قوام الدولة ورصيد نفوذها؛ وأن استخدامه في التنمية والتقدم هو مكانه الطبيعي، لا في صناعة الخراب، وتعميمه، وإنتاج الاضطرابات والقلاقل، وتصفية الحسابات مع الخصوم، وتغذية الفتن وقواها الإرهابية المسلحة باسم «الدفاع» عن شعوب (عربية) أخرى، وإنصاف مظلوميتها.
والحق أن كل ذاك الذي كتبناه، وحذرنا من مغباته قبلاً، هو عين ما يحصل لقطر اليوم بمناسبة هذه الأزمة المفتوحة في العلاقة العربية -والخليجية- بها؛ وكأنا كنا نراه بعين التوقع، ونتحسب لحدوثه ونحن نعاين إلى أي حد ذهب انغماس قطر في «النضال» من أجل الديمقراطية في بلاد الآخرين، وفي تقديم القتلة، والمجرمين، وقطاع الطرق، إلى العالم بوصفهم «ثوريين»، و«مجاهدين»، وإغداق الدعم عليهم لنشر الدمار والخراب في بلاد الشام، وبلاد النيل، وليبيا وسواها، وزعزعة استقرار الجوار الخليجي من طريق توسل جماعات «الإسلام الحزبي» أداة وظيفية للضغط والابتزاز، ومع أن سياساتها في دعم الجماعات المسلحة ألحقت كبير أذى بسوريا وليبيا ومصر والعراق، وكادت تصيب تونس قبل سنوات؛ ومع أن الأذى ذاك أتى كبيراً ومهولاً بحيث أزهق عشرات الآلاف من الأرواح، وشرد الملايين في مناطق اللجوء وفي المنافي القسرية، ودمر البنى والمؤسسات والمقدرات، ونشر الخراب في كل مكان…، إلا أنها (سياسات) انتهت إلى فشل ذريع بعد أن نجحت الجيوش الوطنية في مصر وسوريا وليبيا في إلحاق الهزائم المتوالية بالجماعات المسلحة، وأوصلتها إلى حدود الانكفاء الاستراتيجي، وبعد أن سقط المشروع الإخواني في المنطقة، بعد طول رهان منها ومن تركيا «العدالة والتنمية» عليه، وتضاءلت قدرات قواه.
وقد كان الظن أن قطر ستستدرك على حساباتها الخاسرة، وتعيد تصحيح سياساتها في ضوء ما أصابها من خيبات، ولكن يبدو أنها -وتركيا- ما برحت تراهن على الأحصنة الخاسرة التي جربتها قبلاً. ولأنها اعتادت، من أسف شديد، نهج أسلوب الفهلوة، واللعب على الحبال، وتزويج المتناقضات إلى بعضها (الجمع بين التطبيع مع الكيان الصهيوني والعلاقة ب«حماس»؛ الجمع بين العلاقة بواشنطن والعلاقة بطهران؛ تسخير النخب السياسية والثقافية «العلمانية» جنباً إلى جنب مع الجماعات الإسلامية؛ «الدفاع عن الديمقراطية» في البلاد العربية والتضييق على المطالبين بالإصلاح في قطر؛ استضافة إرهابيين مطلوبين في العالم واستضافة قاعدة عسكرية أمريكية ثم تركية…!)، أمعنت مجدداً في النهج عينه مطمئنةً إلى أن أحداً لن يحاسبها: وهي المحمية من الأمريكيين، و«الإسرائيليين»، والأتراك، والأرجح أنها خالت أن نفوذها المالي قد يذلل أمامها العقبات، على نحو ما اعتادت، من دون أن تنتبه إلى أن المال إذا كان ينفع في اغتنام فرصة مثل تنظيم المونديال، فهو لا ينفع في رد غضب من تأذى أمنهم الوطني، واستقرارهم السياسي.
وها هي قطر -من أسف شديد- ترتكب الأخطاء عينها ثانية؛ فما إن فرضت عليها العقوبات العربية -والأرجح أنها عقوبات أولية- حتى هرعت إلى طلب الحماية الأمريكية والتركية، والتلويح بورقة إيران، غير آبهة بما في ذلك من توتير للأجواء الإقليمية. ومع أننا نأمل في أن تنتهي الأزمة بين الدوحة والعواصم العربية الأربع إلى حل سياسي يعيد قطر إلى منظومتها الخليجية والعربية، وينهي الأسباب التي ولدتها، إلا أننا ندرك أن استيلاد مثل هذا الحل لن يتأتى من طريق سياسة ركوب الرأس، والركون إلى أوهام استخدام موارد القوة المالية والديبلوماسية لقلب التوازنات مع الدول العربية المقاطعة، إنما فقط -وفقط – من خلال الإصغاء لمطالب المقاطعين والنزول عندها. ليس المطلوب من قطر أن تفقد سيادتها، كما تدعي، بل أن تحترم سيادتها من طريق احترام سيادة غيرها. المطلوب منها، ببساطة، أن تعود إلى حجمها الطبيعي كدولة صغيرة، وأن تكف عن انتحال أدوار إمبراطورية أكبر منها.

عبد الإله بلقزيز
hminnamed@yahoo.fr

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى