قضايا ودراسات

ما ورائيات غياب الأفكار

هل يستطيع باحث عربيّ إعداد دراسة علمية، في أيّ مجال من التراث، تاريخاً وأدباً ولغة وديناً، معتمداً على المراجع والمصادر العربية، من دون الاستعانة بالمؤلفات الأجنبية؟ في المكتبة العربية الكلية، مكتبة جزئية تنويرية نقدية تحليلية، خصوصاً في العصر الحديث، لكن الانغلاقية وخشية عواقب حرية التعبير، ظلتا سائدتين على مرّ القرون.
في البلدان المتخلفة، فقط، يتحدث الناس عن الجرأة في الرأي والشجاعة في التعبير. هذه حريات بديهية في البلدان المتقدمة. لكن، حدث «تقدم»، فأبوالعلاء رموه بالزندقة، وهي كلمة زئبقية غير محدّدة، اليوم جملة واحدة من «رسالة الغفران»، أو بيت واحد من «اللزوميات»، ويصدح التكفير. أبوحيّان التوحيدي أطلق «فشة خلق» في الذين يتاجرون بالدين، فوصفوه بأنه «أنكى الزنادقة على الإسلام». فيهم الخير، لم يمنحوه تذكرة «وان وي». المسكين أحرق ما لم ينتشر من كتبه. أمّا ابن رشد فقد أحرقوا جانباً من كتبه، ولكنهم كانوا رحماء، فلم يلق مصير جان دارك.
ذلك أكبر دليل على المسيرة التاريخية المعكوسة، من الانفتاح إلى الانغلاق. من الصعب تحديد نقطة بداية للتحول السلبيّ، الذي وضع حرية الفكر والرأي والتعبير في قفص الاتهام. الأمر الأخطر هو أن هذا التطور انعكس على البحث والتأليف، على الثقافة والمعارف. لا ننس أن جانباً من المؤلفات «الجريئة» العربية لجأ إلى النشر في الغرب، وهذا مهين للهوية العربية. الضيق بالأفكار يعيق التجديد والتطوير. الغريب هو أن العقل العربيّ يبدو أقرب إلى تقبل تبعات الانغلاق منه إلى السير التلقائيّ إلى الانفتاح. البرهان بسيط: لم تظهر أفكار في الفقه ولا في غيره، شقت طريقاً جديّاً نحو بناء مجتمعات على أساس: «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي» (البقرة 256)، وفي هذا المحور آيات عدة، مثل: «لست عليهم بمسيطر»(الغاشية 22) التي قبلها: «فذكّر إنما أنت مذكّر»، وبعدها الرائعة: «إلاّ من تولى وكفر، فيعذبه الله العذاب الأكبر». تأمل: فيعذبه الله، لا غيره.
نخلص من كل ذلك إلى أن حرية البحث العلميّ، في جميع مناحي التراث وشؤون العصر كافّة، كانت تصطدم بموانع تحول دون حرية حركة الفكر والرأي، بالتالي يتعذر الابتكار والإبداع. النتائج واضحة: عدم ظهور الفلاسفة، تهميش المفكرين وقطع الصلة بينهم وبين أصحاب القرار، تقزيم العلوم الاجتماعية والسياسية، تغييب الثقافة الفاعلة، انعدام النظريات الاقتصادية المرتبطة بالأمن القومي لافتقاد الفكر الاقتصادي، اختفاء المؤرخين وفلاسفة التاريخ، والأسوأ هو محاولة سدّ كل هذا الفراغ المهول بتأليه الأبواب العالية.
لزوم ما يلزم: النتيجة الحتمية: عندما تصبح البلدان بلا أفكار رائدة، فذلك هو المرتع الخصب للمخططات الأجنبية.

عبد اللطيف الزبيدي
abuzzabaed@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى