قضايا ودراسات

مبدأ «تقرير المصير» ومتاهات الانفصال

ينطوي تقرير المصير على دلالات اجتماعية وقانونية وسياسية ودولية؛ وهو مفهوم راج بصورة كبيرة في خضم النضالات التي شهدتها مختلف بلدان العالم للتحرر من ويلات الاستعمار الأجنبي في القارتين الإفريقية والآسيوية؛ وهو يعني حقّ مجموعة بشرية تتقاسم هوّية محدّدة؛ تتحكم فيها اعتبارات إثنية أو عرقية أو ثقافية.. في تحقيق اختياراتها السياسية والاقتصادية والثقافية.. بعيداً عن أية هيمنة أو تدخل أجنبيين.
وقد تم تداول المفهوم لأول مرّة بعد فترة الحرب العالمية الأولى على يد الرئيس الأمريكي «وودرو ويلسون»؛ كما شكل المفهوم أحد المرتكزات التي أكّدت عليها معاهدة فرساي التي تمّ التوقيع عليها سنة 1919.
وأسهم ميثاق الأمم المتحدة في ترسيخ هذا المبدأ استناداً إلى الفقرة الثانية من المادة الأولى منه؛ والتي تنص على أن من مقاصد الأمم المتحدة: «.. إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها..»، فيما تنص المادة 55 منه على أنه: «رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سليمة ودية بين الأمم المتحدة مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، تعمل الأمم المتحدة على تحقيق مستوى أعلى للمعيشة وتوفير أسباب الاستخدام المتصل لكل فرد والنهوض بعوامل التطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي.. وتيسير الحلول للمشاكل الدولية الاقتصادية والاجتماعية والصحية وما يتصل بها، وتعزيز التعاون الدولي في أمور الثقافة والتعليم.. وأن يشيع في العالم احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع بلا تمييز..».
قبل أن يتعزّز ذلك بإصدار عدة توصيات من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة؛ من قبيل القرار رقم 1514/ 1960 المتعلق بإعلان منح الاستقلال للدول؛ والقرار 2625/ 1970 المتعلق بمبادئ العلاقات الودّية والتعاون بين الدول..
وفي أعقاب ذلك؛ بدا أن هناك مبالغة في التعامل مع هذا المبدأ؛ حيث ساد اعتقاد بأن من حقّ كل جماعة تجمعها لغة واحدة أو ثقافة واحدة أو فضاء جغرافي واحد.. المطالبة بالاستقلال استناداً إلى هذا المبدأ.
ولأن القانون الدولي يدعم وحدة الدول؛ وأخذاً بعين الاعتبار بأن المبالغة والانحراف في توظيف هذا المبدأ سيخلق حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار الدوليين؛ وبخاصة وأن الكثير من دول العالم تحتضن مجموعات إثنية وعرقية ودينية وثقافية مختلفة تتعايش داخل المجتمع، فقد دان مجلس الأمن محاولة الانفصال في إقليم «كاتنجا» الكونغولي الغني بثرواته المعدنية خلال سنوات الستينات من القرن المنصرم.
وجدير بالذكر أن الانفصال هو مظهر من مظاهر متعددة لممارسة حق تقرير المصير، لأن هناك سبلاً أخرى تجد أساسها في القانون الدولي بإمكانها تحقيق أهداف وغايات هذا المبدأ كنظام الحكم الذاتي.
وفي هذا السياق، حضرت قبل أيام بصفتي عضواً إلى جانب د.لبابة عاشور ود. محمد الصوفي ود. محمد بنحمّو ضمن لجنة مناقشة أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام بكلية الحقوق في جامعة محمد الخامس بمدينة سلا المغربية، تمحورت حول «حق تقرير مصير جنوب السودان على ضوء قواعد القانون الدولي العام»، تقدم بها الطالب الباحث السوداني سليمان حسين كشيب حسين..
أكدت اللجنة على أن الموضوع الذي تقدم به الباحث؛ ينطوي على أهمية كبرى لعدة اعتبارات؛ ترتبط بالالتباس الذي يطبع تناول مبدأ «حق تقرير المصير» بعدم التمييز في جوانبه السياسية والقانونية والاجتماعية؛ وللإشكالات الكبرى التي يطرحها هذا الالتباس على مستوى تهديد سيادة ووحدة الدول؛ علاوة على تسليط الضوء على تجربة جنوب السودان؛ التي تبرز أن الانفصال كأحد مظاهر تطبيق هذا «الحق» يمكن أن يؤدي إلى مجموعة من الأزمات والتداعيات غير المحسوبة في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية..
سلّط الباحث الضوء على السياق المفاهيمي والقانوني والتاريخي لحقّ تقرير المصير؛ وطرح مختلف الإشكالات التي تحيط به.. كما نبّه للانحرافات المرتبطة بتوظيفه؛ وخصوصاً في الحالة السودانية التي كان لعوامل داخلية وأخرى خارجية أثر كبير فيها.. فعلى المستوى الداخلي؛ لا شك أن الانفصال يسائل في مضمونه وتداعياته مسارات التنمية والممارسة الديمقراطية ومدى القدرة على تدبير التنوع داخل المجتمع بصورة بناءة تجعل منه عامل وحدة وقوة.. وعلى المستوى الخارجي؛ تبرز الحالة حجم التحديات والمخاطر التي تواجه سيادة دول المنطقة في عالم متهافت تحرّكه المصالح الضيقة؛ وهو ما نجح الباحث في إبرازه من خلال التطرق إلى الدور الأمريكي والإسرائيلي في هذا الخصوص..
منذ الإعلان عن استقلال الجنوب عام 2011 بعد حرب أهلية طاحنة وفي أعقاب اتفاقية «نيفاشا» للسلام لعام 2005، دخل هذا الإقليم «الفتي» في صراعات داخلية أدّت لحرب أهلية، قتل وشرّد خلالها الآلاف من الأشخاص، ووصلت فيها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية إلى مستوى خطر من الانهيار؛ انخفضت معه قيمة العملة وانتشر التضخم والفقر والبطالة، بل وصل الأمر إلى حد انتشار المجاعة في إقليم يحتضن خيرات وإمكانيات بشرية وطبيعية مهمة.. وهو ما دفع الأمم المتحدة ووكالاتها المختلفة كمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف).. إلى إطلاق تحذيرات ودعوات لطلب المساعدة الإنسانية في هذا الخصوص..
إن الخلاصات العميقة التي طرحتها الأطروحة التي نال بموجبها الباحث شهادة الدكتوراه بميزة «مشرّف جداً»، تحيل إلى أن تطبيق حقّ المصير في هذه الحالة لا يستند إلى مقتضيات القانون الدولي، بقدر ما يعكس في واقع الأمر مجرّد تحقيق مكاسب سياسية.. كما أن تكلفة الانفصال كانت خطيرة، فتداعيات هذا الأخير لم تتوقف على الداخل السوداني من حيث تفتيت سيادة هذا البلد العربي وإضعافه.. وتنامي المعضلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الجنوب؛ مما يفنّد المزاعم التي تربط الانفصال بالاستقرار والتنمية والديمقراطية.. بل تجاوزتها إلى تداعيات أمنية إقليمية ودولية مختلفة.
د.إدريس لكريني
drisslagrini@yahoo.frOriginal Article

زر الذهاب إلى الأعلى