قضايا ودراسات

متاهات ماكرون

د. عمر عبدالعزيز
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون صاحب حزب (الجمهورية إلى الأمام) وجد نفسه فجأة في قمة الهرم السياسي الفرنسي، متخطياً كامل العقبات والتقاليد، متجاوزاً كامل الأحزاب الفرنسية العتيدة في تضاريس حضورها الجغرافي السياسي الذي شمل اليمين واليسار وما بينهما من وسطية يمينية ويسارية، لكن حزب ماكرون تقدم خارج التوصيف التقليدي لليمين واليسار معاً، مكتفياً باسم الجمهورية الفرنسية ذي الجرس الخاص في الفولكلور والوجدان السياسي التاريخي الفرنسي، لكن هذا الاكتفاء باسم الجمهورية الفرنسية لا يغني من الحق شيئاً، فالانتخابات في ذاتها ليست محك الاختبار، بل ما يليها، خاصة إذا عرفنا أن التصويت الجماهيري كان متواضعاً في الانتخابات الرئاسية، ثم أصبح أكثر تواضعاً ونحافة في الانتخابات البرلمانية، وكأن جل الناخبين الفرنسيين لا يعنيهم البرلمان، في تعبير ضمني عن قلق مكبوت، وعدم ثقة ضمنية بالبرامج والوعود الانتخابية.
هذه هي الحقيقة التي سيواجهها الرئيس الفتي إيمانويل ماكرون، ولن يغنيه نفعاً الشعار الرمادي غير واضح المعالم، فهو ومن معه يصرون على أنهم ليسوا بيساريين، ولا يمينيين، ولا وسطيين أيضاً!، وفي هذا الخطاب قدر كبير من الضبابية والتخبط، فالسياقات التوصيفية القائمة للكتل السياسية الفرنسية ليست مقطوعة عن حقائق الوجود، فاليمين بإجماله يمثل البعد الرأسمالي المتحزم بقدر من الليبرالية غير المتعارضة مع سطوة المال والاستثمار، واليسار يتحزم دوماً بالبعد الاجتماعي المتصل بالضعفاء في المجتمع، وبين المديين اليميني واليساري يتموضع الوسطيون المتأرجحون في منزلة بين المنزلتين، لكنهم يمثلون أيضاً وضمناً مشروع رؤية وتقليد قادم من تضاعيف التاريخ السياسي الفرنسي.
إذا استمر حزب ماكرون الجديد، الصاعق والمنتشي بظفر الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تسيير تجربة الدولة وفق خطاب الوعود الانتخابية، فإن فكرة المعارضة البرلمانية ستخبو حد الفجيعة، وبالمقابل سينبري الشارع الفرنسي لرد شعبوي قد يفضي إلى استقطابات شوارعية حادة، وذلك بالقدر الذي تتراجع فيه اللعبة السياسية الموروثة، بتقاليدها التناوبية ومعارضاتها البرلمانية الراكزة، وفضاءات مخاطبتها المنطقية الملموسة لمصالح عامة الناس.
الحالة الفرنسية تفتح الباب أمام احتمالات تجمع بين الغرائبية والترجرجات المفاجئة، وهو ما يقتضي من ماكرون وأنصاره القيام بسلسلة من المبادرات السياسية الضامنة لعودة لعبة التنوع القائم على أسس وجودية حياتية واقعية، فالجمهورية الفرنسية الجديدة لن تحتمل التجديف في مياه معتمة، على متن مركب فاقد للبوصلة.
خلال الأيام والأشهر ستتضح الصورة إلى حد كبير، ذلك أن فرنسا الكبرى بمحمولاتها الاجتماعية والاقتصادية والجيوسياسية المركبة ستضع شروط المستقبل وفق خطاب واقعي لا صلة له بكامل المفاجآت التي جادت بها الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ولعل المثل البريطاني ينبري شاخصاً أمام سدنة ( الجمهورية إلى الأمام) ليتفكروا بتؤدة أمام الانعطافة البريطانية المربكة التي جاءت بعيد الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.. الأمر الذي وضع المحافظين البريطانيين في مأزق لا يعرفون حتى الآن كيفية إدارته و الخروج منه، وأثبت بالدليل القاطع أن الرهان على وجدان المواطن الناخب البسيط سيؤدي بالنخبة إلى دروب ضيقة المسالك.

omaraziz105@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى