قضايا ودراسات

مشهد حزبي وسياسي جديد في فرنسا

د. غسان العزي

لم يحصل التسونامي الذي توقعته معاهد استطلاع الرأي (أي حصول حركة «إلى الأمام» على أكثر من ٤٠٠ مقعد) عشية الدورة الانتخابية التشريعية الثانية في ١٨ من الشهر الجاري، لكن الرئيس ماكرون فاز بأغلبية مطلقة مريحة (٣١١ مقعداً إضافة إلى ٤٤ مقعداً لحليفه حزب فرانسوا بايرو الوسطي، من أصل ٥٧٧ عدد مقاعد البرلمان) تجعله قادراً على تشكيل حكومة بمفرده. وبذلك يكون الشعب الفرنسي منسجماً مع نفسه، إذ إنه انتخب رئيساً، ثم منحه القدرة على الحكم، وتحمل المسؤولية.
حملت هذه الانتخابات التشريعية الكثير من الدروس، كما أنها حققت أرقاماً قياسية في غير مجال بالمقارنة مع الانتخابات التي سبقتها منذ ولادة الجمهورية الخامسة في العام ١٩٥٨.
الرقم القياسي الأول هو نسبة عدم المشاركة في الاقتراع التي بلغت ٥٧،٤٪ والتي تشي بعدم ثقة الشعب بالسياسيين، الأمر الذي دعا ماكرون إلى الطلب من أنصاره إبداء الكثير من التواضع وعدم الاحتفال بالنصر، كما دفع برئيس الوزراء إلى الإعلان أن «النجاح ضرورة وليس خياراً أمامنا».
الرقم القياسي الثاني هو عدد النساء اللواتي يدخلن إلى البرلمان الذي وصل إلى ٢٢٣ (نحو ٣٨،٤٪ من عدد نواب البرلمان الجديد) بزيادة ٦٩ عن العام ٢٠١٢ والذي مثل وقتها رقماً قياسياً في تاريخ البرلمانات الفرنسية.
كذلك برزت مفارقة، وهي حصول الجبهة الوطنية اليمينية المتطرفة على ثماني مقاعد فقط (وبالتالي لن تكون لها كتلة برلمانية لأن الحد الأدنى لتشكيل مثل هذه الكتلة هو ١٥ مقعداً) وهزيمة نائب رئيسها فلوريان فيليبو. وهي مفارقة لكون زعيمتها مارين لوبان، وصلت إلى الدورة الثانية في الانتخابات الرئاسية، أي إلى المركز الثاني في فرنسا، ونافست ايمانويل ماكرون، وبالتالي كان من المنطقي،حسابياً على الأقل، أن تفوز بعشرات، بل ربما مئات المقاعد البرلمانية. وبذلك يقدم الفرنسيون دليلاً على أنهم لا يزالون بمنأى عن ظواهر الشعبوية المتطرفة.
هذه الانتخابات كرست فشل الحزبين التقليديين الاشتراكي إلى اليسار، والديغولي إلى اليمين. لكن هزيمة الاشتراكي كانت أشبه بمجزرة جماعية، إذ إنه لم يتخط الثلاثين مقعداً (مقابل ٢٨٤)، للمرة الأولى في تاريخه، الأمر الذي دفع بزعيمه جان-كريستوفر كامباديس إلى الاستقالة، لاسيما وأنه شخصياً هزم في الانتخابات، وخسر مقعده في البرلمان. أما هزيمة «الجمهوريين» فكانت أقل وطأة بقليل، إذ إنهم حصلوا على ١١٢ مقعداً «ما يسمح لهم بالتعبير عن قناعاتهم والدفاع عنها»، كما قال زعيمهم فرانسوا باروان.
للأسباب نفسها خسر الاشتراكيون والجمهوريون اليمينيون لأنهم يفتقدون إلى زعيم يوحد صفوفهم التي تعصف بها الخلافات والصراعات على السلطة، كما أنهم لم يعودوا يملكون برامج خلاقة ومشاريع مجدية منذ زمن طويل. وفي الآتي من الأيام يتوقع أن تنشب حروب على الزعامة قد تطيح الحزبين التقليدين، أو تدفعهما إلى ولادة جديدة، وهذا يتوقف أيضاً على نجاح، أو فشل الأغلبية الرئاسية الجديدة.
بالطبع، سيكون هناك معارضة لحكومة ماكرون، لكنها ستكون مشتتة لأن جان-لوك ميلانشون (١٧ مقعداً) الذي أعلن «المقاومة» منذ اللحظة ضد «الماكرونية» الليبرالية، لن يتحالف مع الحزب الاشتراكي، ولا مع اليمين المعتدل منه، والمتطرف. هذا الأخير بمقاعده الثمانية، لن يكون مؤثراً، ولن يجد أحداً يتحالف معه. اليمين الجمهوري فقط سيتولى المعارضة بالطريقة التقليدية، ولكنها معارضة على الأرجح ستكون ضعيفة ومنهمكة في إعادة رص صفوفها.
هذه الانتخابات تشبه في نتائجها ما حصل في العام ١٩٥٨ عندما وصلت إلى السلطة وجوه جديدة كلياً مع برامج ورؤى جديدة. وقتها ولدت «الجمهورية الخامسة» مع الجنرال ديغول، الذي استطاع حزبه اليميني التناوب على السلطة حتى العام ١٩٨١ عندما أحدث الاشتراكي فرانسوا ميتران الصدمة بوصوله إلى الإليزيه، وافتتاح عهد جديد من تداول السلطة ما بين اليسار الاشتراكي، واليمين الديغولي الجديد والمتجدد. واليوم، في العام ٢٠١٧، أحدثت الانتخابات الرئاسية، ثم التشريعية، «صدمة» جديدة عبر وصول حزب جديد حديث الولادة، ومعه أرتال من الشبان والشابات إلى البرلمان، من دون تجربة سياسية سابقة، على حساب رؤوس كبيرة من الحزبين التقليديين .
نجح ماكرون في الاستحواذ على الأغلبية التي تمكنه من الحكم، ومن إبعاد شبح «الفرانكسيت» والشعبوية ليس عن فرنسا فقط، بل عن أوروبا أيضاً، ولكنه يدخل منذ اليوم إلى قاعة امتحانات صعبة جداً، عليه أن ينجح فيها، لأن الفشل يحمل هذه المرة مخاطر كارثية حقيقية. الأغلبية المطلقة تعني أيضاً مسؤولية مطلقة، كما عنونت إحدى افتتاحيات صحيفة «الفيغارو».

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى