قضايا ودراسات

مفارقات التراث الحاضر الغائب

عبد اللطيف الزبيدي
كيف ننتقي المناسب من التراث لدعم الهويّة؟ الميراث الثقافيّ مكتبة مليونيّة. ميراث الثقافات والحضارات الإنسانية كله ملك يديك. ما لك لا تستحي من استيراد عود الثقاب من السويد، وقلم الرصاص من الصين، وتُعرض عن ارتشاف المعارف والعلوم من الأقاصي والأداني؟ أنت لا تغريك حتى روائع تراثك فتعمل بقيمها.
نماذج ملهمة قبل الاستئناف: سياسة الصين ودبلوماسيتها وراءها مثلهم العريق: «اجلس إلى ضفة النهر وانتظر، فسوف يمرّ يوماً حاملاً جثة عدوك». معناه: دع نهر الحياة يتدفق بلا توقف، يبعث التنمية في كل الأرجاء، ولا تشغل نفسك بالحروب، سيحسم تفوّقك الأمر. في الموسيقى، قال كونفوشيوس قبل 25 قرناً: «إذا أردت التعبير الموسيقيّ، فاجعله ينبثق من كل درجة صوتية (نوتة)»، اتّبع الصينيون هذه القاعدة إلى أيامنا. ميراثهم الأولوية فيه للأهمّ تدريجاً: العام، الشهر، اليوم. القضاء على الجوع، الدفاع، التنمية الشاملة ثم الانتشار عالمياً.
النظرة السائدة لدى العامّة إلى التراث في العالم العربيّ هي «بالجملة لا بالمفرّق»، غير انتقائية وغير نقدية، فيها تقديس أحياناً. في حين أن نقد التراث لا يخلو منه عصر في التاريخ العربي: الجاحظ، ابن رشد، ابن مضاء نموذجاً. أمّا في القرن العشرين فنقد الميراث الثقافيّ له مئات الكتب. لكنها معزولة عن الحياة العامة، كعبادة الرهبان في الصوامع، وأذكار الصوفيين في الزوايا والتكايا. الثقافة والمثقفون أيضاً وُضعوا في أبراج عاجيّة. في أوروبا تحديداً، للنخب الثقافية الفكرية حضور دائم في كل الشؤون المحلية والعالمية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
ثمة خلل عجيب في مبحث التراث العربيّ، لا يعكف العرب على دراسته، وهو عدم القدرة على التجدد والتجديد، مع وجود مكتبة كبيرة من الأفكار التنويرية. الحلقة المفقودة هي الهوة التي تفصل تلك الأفكار النهضويّة عن الحياة العامة. من رفاعة طهطاوي إلى طه حسين والعشرات، إلى أركون والجابري والأنصاري، الكل على الرفوف. لا علاقة عملية تربطهم بأصحاب القرار ولا بالشعوب. في نهاية المطاف انهارت الأبراج الثقافية، صارت كحدباء الموصل. أليس حادثاً مفجعاً أن يسجّل التاريخ العربيّ أن أسوأ الأحداث في تاريخ العرب ارتكبها مجرمون عرب باسم الإسلام؟ الهوية تحتاج إلى ماضٍ تستند إليه لكي تبني الحاضر والمستقبل. أليس من الضروريّ انتقاء الأفكار «بالمفرّق لا بالجملة»، التي تشاد عليها تنمية شاملة حضارية إنسانية قوية حصينة ومبدعة وعادلة؟ هشاشة الهويّة سببها عدم وجود منظومة قيم عامّة متناغمة قابلة للتجدّد عبر الزمن. تلك هي الجاذبيّة.
لزوم ما يلزم: النتيجة الأينشتينية: الماضي والحاضر والمستقبل حزمة واحدة متزامنة

abuzzabaed@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى