قضايا ودراسات

منهج «الإخوان» في رواية التاريخ

كمال الجزولي
قبل نهاية الأسبوع القادم سيحتفل (الإخوان المسلمون) السودانيون، بصرف النظر عن تعدد مسمياتهم، بالذكرى الثامنة والعشرين لانقلابهم على الديمقراطية الثالثة في الثلاثين من يونيو/حزيران 1989. وكنا أثرنا، قبل بضع سنوات، مسألة تتعلق بالمهنية الصحفية، فنياً وأخلاقياً، على خلفية تصريح نشرته صحيفة إسلاموية، حول دوافع ذلك الانقلاب، منسوباً إلى المفكر الإسلاموي البروفيسور الطيب زين العابدين، الرئيس الأسبق لهيئة شورى إحدى واجهات (الإخوان)، وأستاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم، والمعروف بمعارضته للانقلاب، فبدا، للغرابة، كما لو كان يبرر له، إذ قولته الصحيفة إنه وقع استباقاً لانقلابات أخرى، من بينها واحد للشيوعيين أوشك أن يبلغ ساعة الصفر، «فإذا لم تتغد بهم الجبهة، ربما كانوا تعشوا بها» (20 يوليو 2010).
مصدر الغرابة أن زين العابدين، رغم انتمائه، لم يعرف عنه، سواء اتفقت أو اختلفت معه، صدوره عن دوافع شخصية، أو تأسيس مواقفه على ميل أو هوى. كما أن الصحيفة كانت تعلم جيداً أن الشيوعيين نفضوا عن خطهم السياسي المعلن، منذ أمد بعيد، حتى مجرد تأييد الانقلابات، دع تدبيرها، رغم تورطهم، سابقاً، في تأييد، بل وتدبير بعض الانقلابات. وبالتالي كانت تعلم صعوبة إقناع الناس، خصوصاً من عايشوا، بشكل وثيق، وقائع تلك الفترة، بأن نفس الشيوعيين كانوا يخططون لانقلاب، خلال الفترة 1985 1989. فلا بد، إذاً، أن الصحيفة قصدت أن تخاطب، بمعلومتها المضروبة تلك، الأجيال الجديدة التي لم يكن معظمها قد ولد، آنذاك، فضلاً عن (زيادة سكرها) بنسبتها إلى زين العابدين، فلربما استطاعت أن تصطنع للإسلامويين عذراً في (اضطرارهم) لاستباق خصومهم التقليديين بالانقلاب.
مهما يكن من شيء، وبما أن تلك كانت المرة الأولى التي يتهم فيها أحدهم الشيوعيين بالتخطيط لانقلاب خلال تلك الفترة، دع أن يكون زين العابدين بالذات، فقد هاتفته، صباح الخامس والعشرين من يوليو/تموز 2010، أستفسره حول الأمر فوجدته، كما توقعت، خالي الذهن، تماماً، عما نشر على لسانه، لكنه أفادني بأنه أدلى لتلك الصحيفة بحديث فحواه أنه، وبحكم كونه، آنذاك، رئيساً ل(هيئة شورى الحركة)، سمع الانقلابيين من (الإخوان) يطرحون على الهيئة مبرراتهم بغرض فتح شهيتهم لقبول المخطط، ومن بينها أن الشيوعيين كانوا يسابقون الزمن للاستيلاء على السلطة بالانقلاب، ويخشى أن يسبقوا، فكان أن بلع أعضاء الهيئة، ما عداه، الطعم.
وهكذا، شتان ما بين ادعاء (العلم المباشر)، حسب الصحيفة، وبين حقيقة (العلم السماعي)، حسب زين العابدين، لا سيما وأن غيوماً من الشك ما تنفك تلف مصدر ذلك (العلم السماعي)، وهم أصحاب المشروع أنفسهم، الذين كانت غاية مرادهم تسويغه، وتسويقه، بالحق أو بالباطل.
(الإعلام) غير (البروباغاندا). فعلى حين يهدف الأول إلى تمليك الناس (الحقائق)، ليؤسسوا عليها آراءهم ومواقفهم، تسعى الثانية إلى بث (دعايتها) الزائفة في أوساطهم، ليتمكن من يقف وراءها من السيطرة على هذه الآراء والمواقف، وتوجيهها حسب مشيئته. وفي هذا الإطار لا نخال الصحيفة اختارت، مصادفة، أن تنشر (بروباغانداها) تلك بتاريخ 20 يوليو، أحد أيام انقلاب هاشم العطا الثلاثة، الذي اتهم به الشيوعيون عام 1971. كما أن ثمة مغزى، ولا بد، لتلازم نشر تلك المادة مع مادة غزيرة عن الضباط الذين اغتيلوا في (بيت الضيافة)، والذين لم تتكشف، بعد، طلاسم اغتيالهم، ولو رغب نظام النميري، يومئذ، لتكشفت، لولا تفضيله أن يدعها على حال طلسميتها، بعد أن تأكد، من مختلف التقارير، كتقرير (لجنة القاضي علوب)، مثلاً، أن من شأن (الحقائق) أن تفضح زيف (البروباغاندا) التي ولغ نظامه في ترويجها.
الصحيفة المشار إليها، إذاً، ليست بريئة في (بثها) ل(بروباغاندا) عكوف الشيوعيين على تدبير انقلاب على الديمقراطية أواسط 1989، كمبرر لانقلاب الإسلامويين عليها فجر الثلاثين من يونيو من ذلك العام. وليست بريئة وهي تنسب تلك (الفبركة) إلى زين العابدين، بعد (دغمسة) إفادته، وتحويرها من (سماعية) إلى (مباشرة)، وليست بريئة وهي تنشر (بروباغانداها) المكثفة هذه وسط أجواء من الإشارات المستندة إلى ذاكرة قبلية زائفة، اشتغلت أجهزة (البروباغاندا) المايوية والإسلاموية على شحذها وشحنها، ردحاً طويلاً من الزمن، في قوالب ترميزية جاهزة، من سنخ واقعة (بيت الضيافة)، كي توحي، سلباً، للأجيال الجديدة، بتاريخ لا يمت إلى الواقع بصلة. وتكمن المفارقة في أن الصحيفة، على حين تنوح، مثلاً، على ما تسميها فجيعة الشعب الذي رأى، بأم عينيه، اغتيال الضباط العزل في وضح نهار الثاني والعشرين من يوليو 1971، تتغافل، بالمقابل، عن حوادث الاغتيال المفجعة التي ارتكبها (الإخوان المسلمون) أنفسهم، فجر الثاني من يوليو 1976.
العنف الدموي متطابق، في يوليو 1971 ويوليو 1976، من خلال ملابسات متشابهة. لكن الصحيفة ركزت على أحد (العنفين) من دون الآخر. وما ذلك إلا لأن ذراعي (الإخوان المسلمين) كانتا مغموستين، حتى الإبطين، في (العنف الآخر). وتلك بعض أساليب (البروباغاندا) المخاتلة، المراوغة، التي لا تحسن سوى تشويه التاريخ، والتي لا يمكن مجابهتها بغير الحرص على إبراز الحقائق المجردة.

kgizouli@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى