قضايا ودراسات

من سحر جمال العربية

عبد اللطيف الزبيدي
جولة أخرى في نطاق العتاب المتكرر: الغائب الأكبر في مناهج العربية، هو فتح آفاق الأذهان على الإحساس بجمال اللغة. عشق العربية لا يُبنى على «كراكيب» النحو والصرف. المسامير والغراء ضرورية في النجارة، لكنها ليست هي التي تصنع تحف الأثاث، ولا هي التي تبدع كماناً من طراز «ستراديفاريوس». اللغة كذلك، النحو والصرف يلعبان دوراً في التماسك السليم، لكن جمال اللغة وسحرها شيء آخر. عضلة القلب وضخ الدم والنبض ضرورية، لكن العشق شيء آخر. ذلك ما لا يدركه واضعو المناهج.
يقيناً، لا توجد ظاهرة في العربية أعظم من الجذر الثلاثيّ، الذي يقوم على حرفين أساسيين، ويأتي الحرف الثالث للتخصيص في المعاني. قضية محيّرة حيرة جماليّة، ليس لها مثيل في لغات العالم. كيف لم يتنبّه لها عبقريّ مثل ابن جني الذي اكتشف روعة الاشتقاق الأكبر. هذه الظاهرة هي من الاشتقاق الأكبر أكبر.
النون والفاء في الثلاثي، تدلان على الحركة وحركة الهواء. نجدهما منفصلتين تارة، وأخرى مجتمعتين: نفخ في المزمار وانتفخ الورم. توكلنا: نفج الأرنب، وثب، ونفجت القوس، أطلقت السهم، الحركة في القوس أيضاً، أمّا النافجة فهي حقة يوضع فيها الطيب، فهي نافحة عطرا. نفد، فني وذهب، الحركة غير مادية كنفاد الصبر، ومادية كنفاد الزاد. نفه، نفهت النفس، أعيت وكلّت، حركة القوة نحو الضعف. نفز الغزال، قفز. نفى، طرد، نفت الريح التراب، أطارته. نفك، نفكت الغدة، تضخّمت. نفل، النفل هو العطاء وفيه الحركة من إلى، الطريف هو أن النفل نبتة طيبة الرائحة، ويقال للرائحة ريح (حركة الهواء). نفع قريب من نفل، فيه عطاء. نفف، نفّ الأرض بذرها، نفّ مثل سفّ، فيه حركة الهواء نحو الداخل، بالأنف أو بالفم. في المغرب العربيّ يسمون السعوط النفة، تأمل النون والفاء في الأنف! نفض فيه حركة الانتفاض، وفيه حركة الهواء بنفض الغبار، ونفت الريح التراب. نفق أي فني وذهب، وفيه الإنفاق العطاء، ومنه النفاق وهو إخفاء الشيء. نفر الغزال شرد، وفيه حركة الهواء في صوت الاستنفار، والنفير (الترومبيت). نفش وانتفش الريش والعهن المنفوش. نفذ السهم. نفغ، نفغت اليد، ظهرت فيها البثور، انتفخت. نفأ النبات، ظهرت منه قطع متفرقة، كأنه غبار أو بذار. هل كل ذلك مصادفة؟ أعجوبة!
ثماني حالات تخصصت فيها النون والفاء في حركة الهواء: نفح، فاح الطيب، ونفحت الريح، هبّت. نفط، إلى جانب تدفق البترول والغاز، هو النفخ عند الغضب، والعطاس. نفس والنفس لا يحتاج إلى دليل. نفر، وقد سبق ذكر النفير. نفث، من النفاثات في العقد إلى الطائرات النفاثة. نفخ، من نفخ البطن إلى نفخ الدعاية والإعلان والإعلام. نفص، يقال أنفس بالضحك إذا أكثر منه. وأخيراً نفت، نفخ عند الغضب، والقدر غلت. هل كل ذلك مصادفة؟ عجائب!
لزوم ما يلزم: النتيجة العبثية: حاول العثور على لغة فيها ولو ذرّة من هذه المجرّة الساحرة.

abuzzabaed@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى