نظرية المعرفة بالمقلوب
عبد اللطيف الزبيدي
لماذا اختار العقل العربي، في منعطف تاريخي يصعب تحديد زمانه ومكانه، أن يشق طريقاً موازياً للأداء الطبيعي السليم، ومختلفاً تماماً عن التفكير الإيجابي، بحيث لا يلتقيان؟ لا هو «خالف تعرف» بالضبط، ولا «السير عكس التيار» تدقيقاً. الغريب هو أنه ليس«منزلة بين المنزلتين».
ندع التنظير جانباً. سيعرض القلم نماذج بسيطة واضحة، للبرهنة على التعقيدات اللامنطقية واللامعقولة، التي جعلت العقل العربي يرى الخط المعوج هو القويم الذي يجب التزامه والتمسك به في سائر الميادين. نبدأ بما لا يسبب الصداع، ليكون تمرينًا على تحمل الوزن الثقيل. الموسيقى مثلا: وُلد التأليف الموسيقي السيمفوني الجاد وازدهر قرونا، من القرن السادس عشر إلى منتصف العشرين، ونحن لم نعرف شيئاً اسمه التأليف الموسيقي، إلا شذرات ذهبت مذرات. لم ندرك أصلاً ما هي الموسيقى.تطورَ الطرب لدينا وصار عندنا عدد هائل من ألوان الطرب الجاد (الكلثوميات، الفيروزيات مثالاً لا حصراً)، لكن ماذا عن الموسيقى المحضة الخالصة؟ لا شيء. هل لدينا معادل عربي للتأليف الموسيقي الجاد؟
مثال أخطر: ما علة دوران الاقتصادات العربية في بوتقة التجارة والسياحة؟ ما سبب غياب الاقتصاد الصلب؟ التجارة قائمة عربياً على بيع منتجات الغير، والثروات والموارد الطبيعية، بدلاً من جعلها قاعدة لاقتصاد صلب بوساطة الصناعات القائمة على العلوم والبحث العلمي المنتج، المؤسسة على التعليم الرفيع الذي يؤدي إلى إنتاج العلوم، المرتبطة بالتنمية الشاملة. أما السياحة فهي مصدر عوائد جيدة، ولكنها هشة جراء العوامل الأمنية والسياسية غير المساعدة المحتملة في كل أرجاء العالم. ثمة ثقب أسود يقتل الطاقات، هو عدم تأسيس التنمية وإطلاقها من قوة الشعوب الناهضة ذات الكفاءات الملايينية.
أخطر من ذلك: بحث هذه القضايا بحرية نقدية فعالة، وضمان وضعها جديا على جدول أعمال الأبواب العالية، رهن بإقامة جسور بين أدمغة مراكز البحوث والدراسات وبين أصحاب القرار. الجسور الواضحة هي بين الفكر والمطابع وسلال المهملات أو غبار الرفوف في أحسن الأحوال. يبدو أن بناء الجسور متعذر. الأسوأ من كل ذلك: لماذا لم يستطع العقل العربي التكيف والتأقلم مع المفاهيم الحديثة العصرية للعلوم؟ المفردة «علم» والجمع «علوم»، في الأدمغة مرتبطة بالأمور الغيبية وما يتبعها، فهل وراء هذا إدراك في اللاوعي أن العلوم يجب أن تكون غير منتجة؟ هكذا تنتفي الطبيعة العلمية للرياضيات والفيزياء والكيمياء والأحياء، ما يعني فهماً خاطئاً لخلق الكون والحياة.
لزوم ما يلزم: النتيجة العملية: يجب قلب المفاهيم المقلوبة لتقف الأمور على أقدامها.
abuzzabaed@gmail.com