نكبة المدنيين في الموصل والرقة

إعداد: صباح كنعان
استعادت القوات الحكومية العراقية مدينة الموصل من سيطرة «داعش»، في حين تطبق قوات سورية مدعومة من الولايات المتحدة، على مدينة الرقة في شمال سوريا، وهي آخر معقل حضري رئيسي يسيطر عليه «داعش» في سوريا والعراق. ولكن تكلفة تحرير الموصل كانت باهظة من حيث خسائر الأرواح بين المدنيين، بينما يعاني المدنيون في الرقة الأمرين، وهم معرضون للموت، ويجب إنقاذهم.
حال المدينتين، ومعاناة سكانهما وردا في تقريرين، الأول عن الموصل لباتريك كوكبيرن، والثاني عن الرقة لفيديريكو بوريللو.
بعيد تحرير الموصل، قال قيس (47 سنة)، وهو أحد سكان حي الموصل الجديدة: «في حينا، كان هناك عدد قليل جداً من "الدواعش"، ولكنهم (القوات الحكومية المدعومة بالطيران الأمريكي) ألقوا الكثير جداً من القنابل والصواريخ عليهم. ونحن نقدر أن الضربات الجوية قتلت ما بين 600 و1000 شخص مدني».
وعرض قيس صوراً على هاتفه لمنزل كان قائماً بجوار منزله قبل أن تحوله قنبلة أو صاروخ إلى كومة من ركام، وقال: «لم يكن أي مقاتل "داعشي" في المنزل، ولكن كان هناك سبعة أفراد من عائلة أبو عماد يقيمون هناك، وقد قتل خمسة منهم، إضافة إلى شخصين من المارة».
ويقول سكان في غرب الموصل إن كثافة القصف الجوي لم تكن تتناسب مع عدد مقاتلي «داعش» على الأرض. ومن هؤلاء سعد عمر، الطبيب المتطوع، الذي عمل في غرب الموصل وشرقها خلال أشهر الحصار التسعة. وقد قال إن «الضربات الجوية على شرق الموصل كانت أقل عدداً، ولكن أكثر دقة في التصويب، بينما في غرب المدينة كانت الضربات الجوية أكثر عدداً بكثير، ولكنها كانت عشوائية»، ولا أحد يعرف كم من المدنيين قتلوا في الموصل، لأن العديد من الجثث لا تزال تحت الأنقاض.
وسألنا الطبيب سعد عمر عن تقديره لعدد الناس الذين قتلوا في حي الثورة حيث يقيم، فأجاب: «لا نعرف، لأن معظم البيوت كانت مملوءة بأعداد غير معروفة من أناس نزحوا من أنحاء أخرى من المدينة».
وقد تعرضت بعض الأحياء لأضرار هائلة إلى درجة انه يستحيل الوصول إليها. وقيل لنا إن حيي زنجيلي وصهباء تعرضا لغارات جوية كثيفة، وقد رأينا عن بعد أسقفاً منهارة، وطوابق كانت متدلية، وعالقة مثل بلاطات أسمنت. ولكننا لم نستطع الوصول إلى هناك بسيارتنا لأن الشوارع المؤدية إلى المكان كانت مسدودة بحطام المباني، وسيارات محترقة.
واتهم سكان محليون التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة بأنه أفرط جداً في استخدام القوة والقصف، ولو أنهم أكدوا أيضاً أن «الدواعش» كانوا يرغمون الناس على البقاء في المنازل الكائنة في مناطق القتال، وكانوا يقتلونهم عندما يحاولون الفرار. وقالوا أيضاً انه عندما كانت قوات التحالف ترصد قناصاً «داعشياً» واحداً على سطح، فإنها كانت تدمر المبنى بأكمله على رؤوس العائلات الموجودة فيه. وإحدى العلامات على أن أي مقاتلين من «داعش» لم يكونوا موجودين في منطقة معينة بينما هناك مبان تعرضت للقصف في كل شارع، هي أنه لم تكن تشاهد سوى ثقوب قليلة أحدثها الرصاص في الجدران نتيجة لاستخدام بنادق آلية، أو مدافع رشاشة. وفي مدن مثل حمص في سوريا اليوم، أو بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية، كانت تشاهد الثقوب التي أحدثها الرصاص في جدران المباني خلال معارك الشوارع، مهما تكن حدة القتال.
واتهامات سكان من الموصل أجرينا مقابلات معهم يدعمها تقرير لمنظمة العفو الدولية بعنوان «بأي ثمن كان: نكبة المدنيين في غرب الموصل». ويقول التقرير إن المدنيين تعرضوا «لكثافة نيران مرعبة من أسلحة ما كان يجب أبداً استخدامها في مناطق كثيفة السكان». وقد أجرى محققو منظمة العفو الدولية مقابلات مع 151 شخصاً من سكان غرب الموصل، ومع خبراء ومحللين، ووثقوا ما مجموعه 45 هجوماً أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 426 مدنياً، وإصابة أكثر من 100 بجروح. وهذا التحقيق شمل عينة واحدة فقط من آلاف الغارات الجوية على المدينة. وأثناء وجودنا في الموصل، كانت غارات جوية لا تزال جارية في بعض جيوب المدينة القديمة، حيث لا يزال مقاتلون من «داعش» يتحصنون فيها.
وحتى عندما كانت القنابل تصيب أهدافها، كان من المرجح في كثير من الحالات أن تقتل مدنيين أكثر مما تقتل مقاتلين من «داعش». وعلى سبيل المثال، قال تقرير منظمة العفو الدولية إنه «في يوم 17 مارس/آذار 2017، قتلت غارة جوية أمريكية على حي الموصل الجديدة في الموصل 105 مدنيين على الأقل، من أجل القضاء على قناصين اثنين من "داعش". وبمعزل عما إذا كانت انفجارات إضافية قد حدثت نتيجة لوجود ذخائر في المكان – كما قالت وزارة الدفاع الأمريكية – إلا انه كان يفترض أن يدرك أولئك المسؤولون عن تنفيذ الغارة أن الخطر على المدنيين نتيجة لاستخدام قنبلة تزن 500 رطلاً (227 كلغ) كان كبيراً جداً». وكانت هذه الحادثة الوحيدة في الموصل التي حقق فيها الجيش الأمريكي – علماً بأن الولايات المتحدة تقول إن قواتها تتخذ دائماً تدابير احتياطية من أجل تقليل الخسائر بين المدنيين.
وقد تمكن مقاتلو «داعش» من الصمود في الموصل لمدة تسعة أشهر بدلاً من الشهرين اللذين توقعهما الجيش الأمريكي، نتيجة لاستخدامه ما وصفه ب«أساليب قتالية خاصة». وقادة «داعش» اعتمدوا كثيراً على قناصين كانوا يتحركون بسرعة من منزل إلى آخر. أما وحدات النخبة القتالية العراقية التي تحملت العبء الأكبر من القتال، فقد كان عديدها أقل مما يمكنها من خوض قتال من منزل إلى منزل. ولهذا كانت دائماً تطلب غارات جوية عندما كانت تواجه مقاومة.
ونتائج ذلك شرحها المواطن محمد من حي التنك في غرب الموصل، لمحققي منظمة العفو الدولية بقوله: «الغارات الجوية كانت تستهدف قناصة "داعش". وكل غارة جوية كانت تدمر منزلاً من طابقين بأكمله».
وخسائر أرواح المدنيين في غرب الموصل كانت رهيبة جداً، لأن مقاتلي «داعش» كانوا وحشيين في استخدامهم كدروع بشرية. وقد جمعوا آلاف السكان من قراهم في جوار الموصل، واقتادوهم إلى مناطق القتال. وكانوا يقتلون بالرصاص، أو يشنقون أولئك الذين حاولوا الهروب. وقد شنقوا كثيرين على أعمدة الكهرباء.
وبينما كانت القوات الحكومية العراقية تتقدم، ومقاتلو «داعش» يقاومون، كان المدنيون يحشرون في منطقة صغيرة حيث كانت قنبلة واحدة تقتل أعداداً كبيرة من الناس المحشورين معاً.
وبعد هزيمة «داعش» في الموصل، فإن هذا التنظيم سيزداد ضعفاً إذا صحت التقارير بشأن مقتل زعيم هذا التنظيم أبو بكر البغدادي، في وقت سابق من العام الحالي. وقد أعلن المرصد السوري لحقوق الإنسان حديثاً أن لديه «معلومات تؤكد» مقتله، حسبما أعلنت وزارة الدفاع الروسية في يونيو/حزيران.
الرقة: المدنيون بحاجة إلى الحماية
بينما فرضت القوات العراقية سيطرتها على الموصل، أطبقت قوات سورية مدعومة من الولايات المتحدة على مدينة الرقة بشمال سوريا، وهي آخر معقل حضري مهم لا يزال يسيطر عليه «داعش» في سوريا والعراق. ونتيجة هذا الصراع ليست موضع شك: «داعش» سوف يهزم عسكرياً. ولكن السؤال الكبير الذي لا يزال مطروحاً هو: كم من الناس سيموتون من بين مئات آلاف المدنيين الذين لا يزالون محصورين في الرقة. وعلى العالم ألا يدخر أي جهد لإنقاذهم؟
المدنيون في كلتا المدينتين عانوا وحشية «داعش» على مدى سنوات، والناجون الذين كانوا محظوظين بوصولهم إلى أماكن آمنة نسبياً، يروون قصصاً مرعبة. وفي الشهر الماضي، عندما كنت في شمال العراق، تحدثت إلى سيدة كانت وصلت لتوها بعد تمكنها من مغادرة الموصل أثناء سيطرة «داعش» على المدينة. وقد أخبرتني عن الخيارات الصعبة التي كان يتعين عليها هي، وأعداد لا تحصى من العائلات، أن يتخذوها. فإذا قرروا البقاء، أو لم يستطيعوا المغادرة، فسوف يواجهون وحشية «داعش» يومياً، وكذلك الغارات الجوية الأمريكية التي يمكن أن تقتل عشرات المدنيين خلال ضربة واحدة، وقذائف المدفعية سيئة التصويب التي تطلقها القوات الكردية السورية والعراقية، ونقص الأغذية، وعدم توفر مياه نظيفة، ولا أي رعاية طبية. وأولئك الذين يغادرون – كما فعلت هذه السيدة في النهاية عندما لم يعد لديها أي طعام، وواجه أطفالها الجوع – كانوا يواجهون نيران القناصة، والمفخخات التي زرعها «الدواعش» على الطرقات، وحتى الضربات الجوية للتحالف الدولي التي تستهدف قوافل أناس هاربين، والاعتقال التعسفي لشبان تشتبه القوات الكردية في أنهم متعاطفون مع «داعش».
وهذه السيدة كانت ضمن مجموعة من نحو 50 عائلة نجحت في الوصول إلى مكان آمن، ولكن خلفهم أوقف «الدواعش» مجموعة أخرى أثناء محاولتها الهروب. وقالت السيدة إن «الدواعش» أعدموهم جميعاً، بمن فيهم النساء والأطفال.
غير أننا لا نستطيع إلقاء اللوم على «الدواعش» وحدهم لمقتل أعداد متزايدة من المدنيين. إذ إن مدنيين كثيرين يتعرضون للموت، أو يصابون بجروح نتيجة لعمليات التحالف الدولي. وهذا التحالف ملزم بحماية المدنيين بموجب القانون الدولي، كما لديه فرصة لاتخاذ إجراءات لحمايتهم. وإن لم يفعل التحالف ذلك، فسيكون من المرجح أن تقع أحداث مأساوية.
وقد أعلن وزير الدفاع الأمريكي جيمس ماتيس، مؤخراً، أن استراتيجية الولايات المتحدة بمواجهة «داعش» سوف تتحول من «الاستنزاف إلى الإفناء». وهذا ما حدث في الموصل، وكثيرون يخشون الآن أن يحرص «الدواعش» على أن يموت المدنيون الذين لا يزالون عالقين في الرقة معهم – إما بنيرانهم هم، وإما بنيران الغارات الجوية للتحالف، ونيران قتال الشوارع.
ولكن هناك بديل. فعندما تندلع معارك في مدن كثيفة السكان مثل الموصل والرقة، يجب على الولايات المتحدة وحلفائها أن يختاروا الحماية، وليس الإفناء. وهناك أسباب توجب ذلك، أولها سبب قانوني. إذ إن القانون الدولي يلزم جميع أطراف النزاعات أن يتخذوا جميع الاحتياطات الممكنة من أجل حماية المدنيين. ولهذا فإن شن ضربات جوية مكثفة، وإطلاق نيران مدفعية على مناطق مأهولة يمكن أن يعتبر انتهاكاً للقانون الدولي.
وثانياً، الولايات المتحدة وحلفاؤها لهم مصلحة استراتيجية في بذل كل جهد ممكن من أجل حماية المدنيين. فإذا ما كانت تكلفة تحرير الموصل والرقة هي مقتل العديد من المدنيين، ودماراً على نطاق واسع، فإن المدنيين الناجين قد لا يرغبون في الاعتراف بشرعية النظام الذي يخلف «داعش». وهذا سيزرع بذور عنف متكرر، وأعمال انتقامية، وحتى إعادة بناء «داعش»، أو ظهور تنظيم جديد يكون أسوأ بكثير.
والمحصلة النهائية هي أن «داعش» يريد مقتل مدنيين. وعلى الولايات المتحدة وشركائها أن يدركوا ذلك ويحرصوا على عدم تحقيق ما يريده «داعش».
لقد حدثت مذبحة مدنيين في الموصل. وتجنب تكرار ذلك في الرقة يتطلب الصبر، وحسن التخطيط، والتنسيق، وتوفير الموارد القتالية الكافية. واستخدام القوة الجوية والمدفعية يجب أن يكون محدوداً بشكل صارم، كما يجب عمل كل شيء ممكن لفتح ممرات آمنة للمدنيين. والقيام بعمليات محددة من أجل إخراج المدنيين بسلام من مناطق القتال أمر قابل للتحقق.
وعند اتخاذ قرار لإرغام مقاتلي «داعش» على الانسحاب أو لتطويقهم كلياً، يجب أن تؤخذ في الاعتبار الأخطار التي يمكن أن يتعرض لها المدنيون. كما يجب، بقدر الإمكان، حصر القتال العنيف في مناطق غير مأهولة، أو في مناطق توجد فيها فقط أعداد قليلة من المدنيين.
إن العالم مدين للمدنيين المحصورين في مناطق قتال بأن يفعل كل ما يمكن لإنقاذ أرواحهم، وضمان وصولهم إلى أماكن آمنة.
باتريك كوكبيرن: صحفي إيرلندي خبير في شؤون الشرق الأوسط،
ونشره موقع «كاونتر بانش»
فيديريكو بوريللو: المدير التنفيذي لمنظمة
«المركز من أجل المدنيين في النزاعات»، وهو منظمة أهلية مقرها في واشنطن. نشر التقرير موقع «كومون دريمس»