هاجس إدامة الدولة
خيري منصور
ربما لأن بعض الدول جرى تفكيكها وإعادتها إلى عناصر ومكونات ما قبل الدولة بالمعنى السياسي الدقيق، أصبح هاجس إدامة الدولة والدفاع عن مؤسساتها التقليدية، يستقطب الكثير من المثقفين والناشطين، خصوصاً بعد أن وقع التباس أدى إلى مضاعفات خطيرة هو الخلط بين النظام والدولة وكأنهما وجهان لعملة واحدة!
في الحقيقة ثمة فارق لا يصعب تحديده بين الدولة والنظام، فهي الباقية والمستمرة، لكن النظم هي ما يتغير، وبديل الدولة في حال سقوطها وتفكيكها هو الفوضى التي قد تأتي على الأخضر واليابس، وحين يفرط البعض في الحديث عن حماية الدولة فذلك بمثابة رد فعل على ما حدث في هذا العالم خلال العقود القليلة الماضية، وقد يكون لهم الحق في ذلك، لأن ما بعد الدولة هو بالضرورة التيه والضياع وفقدان الدليل والبوصلة.
وقد تؤدي المراهقة الفكرية أو الرعونة السياسية إلى الرهان الشمشوني وهو «عَلَيّ وعلى الدولة» بدلاً من «عَلَيّ وعلى أعدائي»، ومن البديهي أن تحرص حتى المعارضات على بقاء الدول متماسكة، لأنها تفقد معناها وجدواها في غياب الدولة، ولدينا أمثلة منها ما هو مرئي بالعين المجردة عن دول انتهت إلى ميليشيات، وفقدت مضمونها التاريخي وحتى الوجودي، لهذا فإن الفقه الطارئ المبشر بملشنة الدولة يمارس تشريعاً غير مباشر للانتحار وهذه مناسبة للتذكير بأن هناك غياباً ملحوظاً للتثقيف بالدولة وأدبياتها ومجمل عناصر كيميائها التاريخية.
لأن مثل هذا التثقيف يوضح مدى الأخطار التي تنتج عن تفكيك الدول، ويفك الاشتباك بين مفاهيم تقاطعت وتداخلت في مراحل من التاريخ لم تكن الدولة فيها قد استكملت أقانيهما ومقوماتها وبالتالي جدارتها بالبقاء.
وما يقوله علماء النفس والاجتماع حول هذه المسألة يتلخص في أمرين أولهما: إن فائض المكبوت السياسي والتربوي لدى مجتمع ما قد يصيبه بالعمى في لحظات الانفجار، ويتغلب التفكير الانفعالي وردود الأفعال لديه على العقلانية، لكن مهمة الترشيد في هذه الحالات منوطة بالنخب الأدرى بشعاب البلاد وشجون العباد عندما يجدون أنفسهم في عراء التاريخ، وعلى قارعة الجغرافيا بلا دولة!