قضايا ودراسات

هولاكو الألفية الثالثة

خيري منصور

حملت المدن العربية عبر تاريخها أسماء ترشح منها روائح العصور الذهبية، كالموصل أم الربيعين وحلب الشهباء وبغداد التي اشتق من اسمها ما يدل على الرفاه وفائض الخير، كأن يقال إن فلاناً تبغدد، وحين سمي العراق أرض السواد لم تكن تلك الصفة شارة حداد، بل هي تعبير عن شدة الاخضرار الذي يوشك أن ينبثق من كثافته اللون الأسود.
فهل خلعت تلك المدن أسماءها واستبدلتها أم أن الربيع أصبح خريفاً مزمناً؟ ومن عانوا من الفائض في كل شيء أصبحوا يعانون المديونيات التي تشمل حتى الثقافة والفنون؟
لقد مر هولاكو بالقرب من جامع النوري في القرن الثالث عشر الميلادي ورغم كل ما اقترفه لم يهدم المئذنة الحدباء التي تجاوز عمرها تسعمئة عام.
وما يمارسه الإرهابيون الآن يتخطى كل ما فعله التتار، من تدمير معابد ومساجد ومتاحف ومزارع وجامعات إلى إعدام المدنيين بالجملة ودفنهم في قبور جماعية أو تركهم في العراء محرومين من كرامة الدفن الآدمي.
إنها ليست مقارنة بين النار والرمضاء أو بين الأخوين شهاب الدين كما يقال في الأمثال، ولا هي مفاضلة بين الذبح بسكين مشحوذ وآخر أعمى!
لأنه ما من مفاضلة بين السيئ والأسوأ والأشد سوءاً، وقد تكون كلمة المرادفة هي الأدق في هذا السياق.
واضح الآن أن الإرهاب وهو يقترب من طور الاحتضار يحرق الأخضر واليابس معاً، وهذا ما يسمى في أدبياتنا الشعبية «ضربة المقفي»، ومعناها ضربة الهارب الأخيرة الموجعة، لأنها رهان شمشوني يقول فيه المهزوم عليّ وعلى أعدائي، لكن ما يغيب عن هولاكو الألفية الثالثة، هو أن الشعوب التي شيدت المآذن والصروح ومجمل منجزات الحضارة قادرة على استئناف عملها بالإرادة الباسلة ذاتها، وأن البشر قادرون على ابتكار مبيدات لكل ما يلحق الأذى بجنسهم، لهذا أصبح متوسط عمر الإنسان يقارب الثمانين عاماً، فيما لا تعيش الحشرات المضادة لآدميته غير أيام أو أسابيع، لأنها مطاردة في كل مكان، ولا مأوى لها في نهاية المطاف غير القمامة!
وحين أغرق هولاكو المخطوطات العربية في النهر حتى غير لونه لم يغرق العقل الذي أنتجها، وهذا ما سوف ينتهي إليه الإرهاب الأعمى.

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى