مقالات تقنية

«العاطفة الرقمية» تحدد الاتجاهات العالمية سياسياً وثقافياً واجتماعياً

علي الخشيبان

مستقبل العاطفة الرقمية بحاجة إلى دراسات وتحليل عميق لأنه بلا شك يمارس ضغطا هائلا ليس على دول بعينها وإنما العالم كله بثقافاته ومجتمعاته يقع تحت تأثير محتمل للعاطفة الرقمية التي أصبحت مصدر قلق حتى لأكبر دول العالم..

تمكنت المنتجات الرقمية في نهاية المطاف من إثبات وجودها أمام الثقافة العالمية دون استثناء، وعملت بهدوء على الإطاحة بكل وسائل النشر أو التواصل التقليدية، وهذا مؤشر طبيعي على نهاية أنظمة الإعلام والنشر والتواصل والرقابة وفق منهجيتها التقليدية، ليس بإمكان أي مجتمع في هذا الكون أن يمارس عمليات الحماية المجتمعية المعتادة في الثقافة، ولم يعد بإمكان الأنظمة السياسية ممارسة الرقابة على المنتجات الفكرية والثقافة تقليدياً.

بسرعة هائلة لم تتجاوز العقدين تمكنت البشرية أن تمارس عملية تسييل هائلة لمنتجاتها الثقافية وتحويلها من مادة صلبة على الأرض إلى مادة غازية انتشرت في فضاء الكرة الأرضية دون قيود، لقد كانت المجتمعات تبشر بالثقافة الغربية وأننا يجب أن نأخذ منها ما يفيد ونترك ما لا يفيد، ولكن في لحظات سريعة سقطت هذه النظرية وأصبحنا في أزمة الدافع واختلال المعايير حول ماذا نريد لأنه لم تعد لدينا قدرة الفرز؟

لم نكن الوحيدون الأكثر تأثرا من الرقمنة ومنتجاتها فحتى الثقافة الأميركية والغربية عموما والتي ظلت لسنوات عديدة تمارس الانتقائية الإعلامية والثقافية على مجتمعاتها، تحولت اليوم إلى مساحة مفتوحة يصعب ترويضها أو حتى إدارتها وليس من الصعب سياسيا أن تنسب الحالة السياسية الأميركية اليوم إلى تلك الأزمة، لأنه على جميع الدول ألا تقلق وألا تعتبر الرقمنة ومنتجاتها من العولمة جزءا من نظريات المؤامرة، فحتى أميركا ساهمت الرقمنة وخاصة العاطفة الرقمية في تغيير السلوك السياسي للفضاء التنافسي بين أكبر حزبين أميركيين، ومن تابع السياسة الأميركية خلال الست سنوات الماضية يدرك ذلك الخليط القاتل الذي انتاب السياسة الأميركية بين الطموح والخوف وسوء التقدير كل ذلك لا بد وأنه نتيجة طبيعية لتحولات الرقمنة وتأثيرها المباشر على الإنسان وعواطفه واتجاهاته.

إذا ما (العاطفة الرقمية)؟ هي شكل من الاتجاهات الفكرية يحددها الفرد ويؤثر بها على المجتمع بطريقة ساحرة مستخدما منتجات الرقمية من وسائل التواصل الاجتماعي، وهي لا تعتمد على مهارات الفرد أو قدراته الخارقة، إنما تعتمد على استثمار اللحظة أو الحدث أو الأزمة، وبذلك تضعنا العاطفة الرقمية أمام تحدٍّ هائل لفهم كيفية تأثير الرقمنة ودورها، حيث لا تتطلب مهارات فكرية أو ثقافية، بلغة أكثر وضوحا قد ينقل شخص عامي لا يعرف حتى القراءة أو الكتابة مشهدا محددا يتم نشره على منتجات الرقمنة ويتحول إلى حدث سياسي وثقافي واجتماعي تستثار من أجله كل أجهزة الدول.

حتى في السياسة أصبحت العاطفة الرقمية عنوانا مهما وخير دليل الخطابات الرئاسية الأميركية، حيث تبدأ تلك الخطابات بكلمات مثل: الديماغوجيون يهاجمون منتقديهم، والمتطرفون يتربصون بالنظام، وهكذا يلحظ الجميع أن التطور السياسي في أميركا على سبيل المثال تغير بشكل لافت للأنظار وأصبح استقطاب المجتمع قضية سياسية بدلا من كونه قضية حزبية أو أيديولوجية وهذا ما جعل العاطفة الرقمية تسيل بشكل لافت للنظر في خطابات الكثير من القادة حول العالم وليس في منطقة بعينها.

العاطفة الرقمية غيرت الفهم المشترك لكثير من معطيات الحياة وأصبحت المجتمعات اليوم أمام تحديات كبرى، وأصبحت معايير الرقابة شبه مفقودة وأدركت الدول صعوبة المرور بين ثنايا الرقمنة لقد أصبح العالم أكثر قلقا لأن الانهيارات التي حدثت للإمبراطوريات عبر التاريخ قد سبقها تدهور في المعايير السياسية وهذا ما تفعله العاطفة الرقمية اليوم بكل احتراف.

في عالمنا البعيد عن أميركا وأوروبا نشعر بتلك الوطأة الثقيلة للعاطفة الرقمية التي انتشرت خلال العقدين الماضيين، وكيف منحت الرقمنة بمنتجاتها المختلفة الأفراد القدرة على إرباك الأنظمة وخلط المعايير ونقد الثقافات، لقد أصبحنا نعاني من حساسية شديدة تجاه المشاهد المصورة والمقاطع المختارة لأحداث بعينها، ليس لأنها سلبية أو إيجابية ولكن لأنها منتج للعولمة أكبر من استيعابنا الثقافي، فالرقمنة بوسائلها لا تتطلب وعيا ثقافيا وفكريا محددا يمكن من خلاله فهم الأفراد واتجاهاتهم وإنما هي مسار صامت تقني لا يحدد شكل المادة أو نوعها أو نوع من يتعامل معها.

مستقبل العاطفة الرقمية بحاجة إلى دراسات وتحليل عميق لأنه بلا شك يمارس ضغطا هائلا ليس على دول بعينها وإنما العالم كله بثقافاته ومجتمعاته يقع تحت تأثير محتمل للعاطفة الرقمية التي أصبحت مصدر قلق حتى لأكبر دول العالم، ولأنها عاطفة ارتبطت بالرقمنة فإن خياراتها المتاحة فقط مرتبطة بالهجوم أو الدفاع مع استخدام مفرط لعبارات هجومية قاسية، المجتمعات سوف تخضع بلا شك لمنتجات العاطفة الرقمية وعليها أن تتحمل بطرق منهجية وعملية كيف أن الفرد يفقد المعايير الثقافية والنظامية عندما تغشاه العاطفة الرقمية من أمام مشهد أو موقف من السهل نقله رقميا للعالم الخارجي.

* نقلا عن ” الرياض”

زر الذهاب إلى الأعلى