الشعر

ترجمة الشعر

محمد العضاضي

حدث نقاش قبل أيام عبر إحدى منصات التواصل الاجتماعي حول ترجمة الشعر، حيث عبر علي فايع عن عدم تذوقه لترجمات قصائد من الإنجليزية إلى العربية يقوم بها الدكتور سعد البازعي وتنشر في مجلة اليمامة، وكان هناك تعليق من حسين بافقيه بأن مرد ذلك أن سعد اليازعي في نظره ليس أديبا أو كما قال بأن ليست لديه “روح فنان”…..

ولأنه كان لدي يوما شغف الترجمة من وإلى الإنجليزية، شغف اندثر عبر السنين تحت وطأة هموم وتوجهات حياتية أخرى، سأحاول هنا جلب ما يمكن اللحاق به من ذكريات مع تجربتي تلك، ومنها ترجمة الشعر، وإن كانت ترجماتي من العربية إلى الإنجليزية.

في البداية، وللمقارنة، للشعر مكانة عالية ومركزية في الثقافة العربية قد لا يوجد مثيل لها في الثقافات الأخرى، ومن ثم في الوجدان والعقلية العربية. فلقد كانت “الكلمة” منذ البداية هي المادة الخام الوحيدة للإبداع، وبلا منافس في منبع اللغة العربية، جزيرة العرب، من قبل الإسلام ومن بعده، لذا حاز الشعر والشعراء على مكانة مرموقة في مجتمعات العرب حتى بعد أن تمددت أراضيهم مع الفتوحات العربية الإسلامية شرقا وغربا وشمالا. ومعها ظهرت المقولة الشهيرة: الشعر ديوان العرب.

في المقابل، الشعر في الثقافة الإنجليزية كان وما زال يشكل جزءا صغيرا جدا في منظومة وسائل وطرق الإبداع عندهم، من مسرح وموسيقى ورقص ونحت ورسم وغيرها من الفنون التي نبعت في أوروبا منذ قرون عديدة. لذا بقي الشعر محصورا عندهم في زاوية ضيقة، مقارنة بالحضور الطاغي للشعر العربي بكل فئاته في الثقافة العربية. تجد الشعر والشعراء العرب يزبدون ويرعدون في الفضاء العام ليل نهار، بينما الشعر والشعراء في البلدان الناطقة بالإنجليزية ،وعلى رأسها أمريكا، لا يعرفهم ولا يقرأ لهم إلا الشعراء الآخرين، كما يقول الشاعر الأمريكي، دانا جيويا، في كتابه: هل يهم الشعر؟

عبر التاريخ، هناك شعر في كل ثقافة بطريقة أو أخرى، قد تختلف كثيرا مع الشعر العربي شكلا ووظيفة مثلما أن هناك بعض أوجه الاختلاف داخل الشعر العربي ذاته، الفصيح منه والشعبي، وغيرها من التفريعات. وعند الترجمة من الإنجليزية للعربية مثلا، أو العكس، ستكون مساحة التصرف المتاحة للمترجم محدودة مهما كان موهوبا أو صاحب ذوق ولديه “روح فنان.” فعلى سبيل المثال، يطغى الجانب الشكلي في الشعر باللغة العربية على الوظيفة (الرسالة أو المعنى) من إيقاع وقافية ومفردات وعبارات مزخرفة وغيرها من السمات. لذا الشاعر العربي كما يقول غازي القصيبي عبارة عن خليط من فنان يمارس اللحن والغناء والنحت والخطابة، في آن واحد.

ويقول نزار قباني: أنا من أمة تتنفس الشعر، وتتمشط به، وترتديه. كل الأطفال عندنا يولدون وفي حليبهم دسم الشعر. وكل شباب بلادي يكتبون رسائل حبهم الأولى شعراً، وكل الأموات في وطني ينامون تحت رخامة عليها بيتان من الشعر.

في الشعر الإنجليزي، معايير الإيقاع الموسيقي وصوره الجمالية تختلف جذريا من ما هو معروف في لغتنا، وقد أخذ الشعر الإنجليزي منحى وتوجها راديكاليا في بداية القرن العشرين مختلفا عن ذاك الذي عرف منذ أيام شكسبيرفي قبل أربعة قرون بقليل حيث كانت النقلة التاريخية من اللغة الإنجليزية الوسطى -التي لم تعد تفهم- إلى اللغة الإنجليزية الحديثة. اختفت السمات الشعرية التقليدية في الشعر الإنجليزي منذ حوالي قرن في ما عرف بالحركة الحداثية في الشعرالإنجليزي بقيادة تي اس ايليوت وعزرا بواند، حيث أصبح الشعر أقرب للنثر شكلا ورمزيا تجريديا من حيث الجوهر، أو المعنى، وهو ما حاول بعض الشعراء العرب تبنيه، مثل أدونيس، وغرسه في الثقافة العربية، لكنها كانت تجربة فاشلة أشبه ببائع الماء في حارة السقايين، كما يقول المثل الشعبي. تجربة لم تجد طريقا إلى الذائقة الشعرية العربية المترسخة في جيناتنا ولم يقرأها أو يطبل لها إلا قلة منتمين لها.

الترجمة ضرورية في حياة البشرية وكانت موجودة منذ الأزل، فمن خلالها تتلاقح العلوم والمعارف والثقافات. صحيح أنه يضيع جزء من النص الأصلي عند الترجمة إلى لغة أخرى مهما كان النص سطحيا وسهلا. وفي حالة الشعر، هناك من يعتبر الترجمة مستحيلة وبأن النص الشعري يضيع تماما ويذوب عندما يترجم إلى لغة أخرى. في النهاية المسألة نسبية وتختلف من شخص لآخر. المهم لمن يقرأ الترجمة أن لا يقرأها بذائقته العربية ومعايير الشعر العربي المترسخة في وجدانه، بل يجب أن يقرأ ذلك الشعر المترجم بروح ملؤها فضولية اكتشاف وفهم جزء من لغتهم الشعرية وثقافتهم.

نقلا عن العربية نت

زر الذهاب إلى الأعلى