مكان الكتابة

د. حسن مدن
أذكر أني قرأت لجابرييل ماركيز ما معناه أنه لا يجد أي غضاضة في أن يكتب أعماله الأدبية في مقهى أو حانة. الضجيج من حوله لا يعنيه، أو لا يشتت تركيزه في ما يكتب. كأن لديه قدرة على الانفصال عما يدور حوله من صخب.
هذا القول يكسر الهالة المفروضة على طقس الكتابة، الذي يبلغ حد إضفاء القداسة عليها، حيث يوحي لنا بعض الكتاب بأنه يلزمهم كي يكتبوا جواً من العزلة والانفصال عن العالم، حيث ينفردون بأنفسهم، فلا يطيقون سماع أصوات أو دبيب حركة.
لكن يبدو لنا أنه يشترط في الكاتب أن يكون غريباً في المقهى الذي يكتب فيه، أو بالأحرى وسط زبائن غرباء، فكونه محاطاً بمعارف وأصدقاء له، لن يستطيع الانفصال عنهم والانصراف إلى كتابته، حتى ولو تركوه وشأنه.
قرأت مؤخراً شهادة على لسان كاتب أجنبي آخر، يقول فيها إنه يفضّل المقهى، خاصة إذا كان في باريس، كمكان للقاء الأصدقاء وتبادل الأحاديث والأخبار معهم، بدرجة أساسية، ففي المقهى قد تحدث أشياء رائعة، لكن حدث أن قام بالكتابة في المقهى أيضاً، لأنه عندما يكتب وينظر إلى الآخرين وهم يعيشون يستطيع بقوة الأشياء أن يأتي بشيء جديد، فهو تماماً مثل ماركيز لا يسمع الضجيج عندما يكتب، والفوضى من حوله لا تضايقه.
لكنه لا يعتبر المقهى المكان المثالي للكتابة، فهو لا يستطيع أن يفعل ما كان سارتر يفعله بأن يكتب كتاباً كاملاً في مقهى بعينه، والسبب ليس فقط في كون المقهى المكان غير المثالي للكتابة، وإنما لأن الرجل لا يستطيع تأليف كتاب كامل في نفس المكان، ففوق طاقته كإنسان أن يبقى في نفس المكان لإنجاز ذلك.
لذا فإنه لا يعتبر أنه يوجد مكان مفضل لديه للكتابة، ولا يحبذ ذلك، فالأنسب هو تنويع الأماكن، لكن المدهش أنه استطاع أن يكتب رواية كاملة على الشاطئ، فالشواطئ دائماً تجذبه، وهو يراها أكثر الأمكنة ملاءمة للقراءة، وبسبب ذلك أتلف عينيه، لأن الشمس تجعل الصفحة باهرة الضوء.
هل طبيعة الكتاب الذي يكون الكاتب بصدد كتابته تحدد الطقس والمكان، بمعنى أن كتابة الرواية تستلزم طقساً ومكاناً مختلفين عما تتطلبه كتابة عمل فكري أو بحث؟
بعض الكتّاب، ممن عرفوا بالجمع بين أكثر من جنس من أجناس الكتابة، ينفون ذلك، مؤكدين أن النتيجة هي التي تختلف، لكن الطقس والمكان غير مهمين، لكن المشتغلين بالبحث تحديداً كثيراً ما يؤكدون على أهمية أن يكونوا، فترة انهماكهم في أبحاثهم، في المكتبة، أكانت مكتبة عامة أو مكتبتهم الشخصية، ليضمنوا قربهم من المراجع والمصادر التي لا غنى لهم عنها من أجل إنجاز أبحاثهم.
madanbahrain@gmail.com