حروب المستقبل داخل الدول وليس بينها؟

د. عصام نعمان
كلا، إنها ليست نبوءة، بل استنتاج يرتقي إلى مستوى قاعدة راسخة توصّل إليها «المركز العالمي للامساواة». ففي تقريره الاستراتيجي الأخير المستقى من دراسة معمّقة أجراها مؤخراً، يكشف المركز أن النمو الاقتصادي والرخاء الاجتماعي يتباينان من منطقة إلى أخرى، إذ أصبحت كاتالونيا، مثلاً، ولاية غنية في جوار ولايات بإسبانيا أقل غنى أو فقيرة في الموارد والثروات، وهي من الأسباب غير المباشرة التي تهدد بتمزيق نسيج بعض الدول والمجتمعات. فالمناطق الغنية تفضّل الانفصال عن تلك الفقيرة، «وهي حروب مؤجلة للمستقبل، ربما تكون داخل الدول وليس بينها».
يلاحظ التقرير أن منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تشهد أعلى معدل للامساواة في العالم في نصيب الأفراد من الدخل والتملّك بين الأثرياء والفقراء، إذ يحصل 10 في المئة من الأثرياء على 61 في المئة من الموارد والثروات العربية. هذه النسبة تصل إلى 55 في المئة في الهند والبرازيل وإفريقيا، وتنخفض إلى 47 في المئة في شمال أمريكا وروسيا، في حين تقدّر بِـ 41 في المئة في الصين، ولا تزيد عن 37 في المئة في دول الاتحاد الأوروبي، وفقاً لإحصاء أنجزه المركز المذكور.
ما أسباب هذه الفوارق؟
يقول تقرير «المركز العالمي للامساواة»: إن الفوارق في العالم زادت منذ ثمانينات القرن الماضي وتوسّعت منذ اعتماد العولمة، وتحرير التجارة والاقتصاد، وخروج بعض الدول من الأنظمة الشمولية والتخلي عن تحكّم الدولة بالاقتصاد والاتجاه نحو حرية المبادرة واقتصاد السوق. ذلك أدى إلى تفاوت مذهل، إذ أصبح واحد في المئة من أكثر أثرياء العالم يملكون 27 في المئة من مجموع الناتج الإجمالي للكرة الأرضية، بينما لا يملك جميع فقراء العالم سوى 12 في المئة من الثروات في وقت يعاني 815 مليون شخص من الجوع والأوبئة، نصفهم في إفريقيا جنوب الصحراء.
تقرير المركز أفاد أيضاً أن الفوارق داخل البلد الواحد تفاقمت بوتيرة متسارعة، وأن نصف السكان الفقراء في العالم أفادوا من ثمرات النمو الاقتصادي ومن معدلاته المرتفعة في السنوات الأخيرة. لكن، في المقابل، شهد معدل نمو دخل الطبقة الوسطى في العالم ومستوى معيشتها تدنّياً. ويرى محللون أن الحروب والنزاعات التي انفجرت في السنوات الماضية في عدد من مناطق العالم أضرّت أساساً بالطبقات الوسطى مقارنةً ببقية مكوّنات المجتمع. وكان تراجع الطبقات الوسطى لافتاً في المجتمعات الأمريكية والأوروبية خلال الأزمة الاقتصادية العالمية التي تفجرت سنة 2008.
هل من دورٍ للدولة في معالجة معدلات اللامساواة في عالمنا، ولا سيما في منطقتنا العربية ؟
يتخوّف تقرير المركز من عجز الحكومات عبر وسائلها الدستورية عن العمل على الحدّ من الفوارق واللامساواة في الدخل والفرص. لماذا؟ بسبب حرية الاقتصاد والمبادرة بما في ذلك احتمال زيادة ديون الدولة من مقرضيها من الأفراد، وتفاقم المديونية الداخلية التي تؤدي في معظم الأحيان إلى تخلي الدولة عن ممتلكات عامة لفائدة المقرضين، وأحياناً بتمويلات من الدولة نفسها أو مؤسساتها المالية لتقوية الرساميل الوطنية في مواجهة المنافسة الدولية.
يغفل تقرير المركز، أو يسكت (؟)، عن واقعة ناتئة في عالم الجنوب عموماً وعالم العرب خصوصاً. إذا كان دور الدولة قد تراجع في دول عالم الشمال، الأمريكي والأوروبي والروسي والصيني، فإن الدولة في تلك الأقاليم ما زالت موجودة وفاعلة، لكن أين الدولة في عالم العرب؟ أين هي في الدول التي عانت وما زالت حروباً واضطرابات واسعة في أعقاب ما يسمّى «الربيع العربي»؟ لا دور للدولة في كل هذه البلدان لأن لا دولة أصلاً فيها منذ أكثر من سبع سنوات وإلى إجل غير معلوم!
غير أن تقرير المركز العالمي للامساواة لا يغفل ظاهرة لافتة في عالمنا المعاصر، ولا سيما في عالم الشمال، وهي «تنامي الشركات الضخمة التي أصبحت تتحكم بالمسلسل الانتخابي وفقاً لمصالحها، بما في ذلك التمويل وهيئات الضغط واللوبيات المختلفة».
هل من زيادة لمستزيد ؟ نعم، سؤالٌ واحد مقلق: ما بديل الدولة المتراجعة وربما المتلاشية؟ هل هي الشركة ؟