قضايا ودراسات

العقوبات الغربية والتحالفات الروسية

الحسين الزاوي

تواصل العقوبات الغربية، وفي مقدمها العقوبات الأمريكية على روسيا، أدى إلى إحداث تحولات كبرى على مستوى بنية العلاقات الدولية في مرحلة تاريخية بالغة الحساسية، يميّزها فقدان اليقين في المرجعيات السياسية والقانونية التي يمكن أن يُبنى عليها السلم العالمي؛ ويدفع هذا الخيار الاستراتيجي الغربي موسكو إلى تبني سياسات دفاعية غير متوازنة أحيانا، وتمثل في بعض جوانبها خطورة كبيرة على التوازنات الإقليمية والدولية.
وقد جاءت زيارة الرئيس الروسي فلادمير بوتين إلى طهران مع بداية شهر نوفمبر الجاري، لتؤكد أن موسكو مازالت تصرّ على دعم مسار تحالفاتها غير الطبيعية مع قوى إقليمية لا تملك سياسة خارجية، تستند إلى حسابات المصالح المشروعة المتعارف عليها في الأبجديات السياسية المعاصرة، ولكنها تمارس سلوكاً سياسياً قائماً على عناصر موغلة في الطائفية، وتُفسد إلى حد كبير قواعد الممارسة السياسية التي تأسست عليها التوازنات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط منذ عقود خلت.
استطاعت موسكو أن تحقق حتى الآن، بعض الانتصارات الجزئية في سياق استراتيجيتها الهادفة إلى الالتفاف على الحصار السياسي والاقتصادي الذي تفرضه عليها القوى الغربية الكبرى، وقد منحتها دول «البريكس» متنفساً كبيراً من أجل التخفيف من آثار هذا الحصار، كما سمح لها تقاربها الكبير من تركيا خلال السنتين الأخيرتين بامتلاك أوراق جديدة قابلة للتوظيف في حربها المفتوحة مع الغرب، لاسيما في مناطق المواجهة المباشرة والمفتوحة في أوكرانيا وسوريا. وبالتالي فإنه وفي اللحظة التي تدخل فيها العقوبات الأمريكية على روسيا معترك تصفيات الحسابات الداخلية في واشنطن بين الرئيس وخصومه السياسيين، فإن آثارها الاقتصادية والجيواستراتيجية تؤثر في مستويات وصيغ متعددة على حلفاء واشنطن في أوروبا، وتسهم في دفع مناطق عديدة من العالم نحو المواجهة المفتوحة، في ظل وجود رئيس أمريكي يحرص منذ بداية ولايته الرئاسية على اعتماد ما يصطلح بعض السياسيين الغربيين على تسميته بدبلوماسية الفوضى.
من المؤكد بحسب السياقات السياسية التي تفصح عنها تطورات الأحداث، أن إصرار الولايات المتحدة على وضع روسيا في سلة واحدة مع كل من كوريا الشمالية وإيران في ما يتعلق بحزمة العقوبات الموجهة ضد هاتين الدولتين، يفتقد إلى حجج قوية وذات مصداقية، ويمكن أن نفسر ذلك جزئياً بضعف القدرة التنافسية للاقتصاد الروسي على المستوى الدولي، مقارنة بالقوة الاقتصادية للصين الحليف الأول لكوريا الشمالية؛ لكن هذا الشطط السياسي الأمريكي لا يعفي روسيا من تحمل مسؤولية إصرارها هي الأخرى على المراهنة على تطوير علاقات استراتيجية مع إيران، وبخاصة أنها تعلم جيداً أن طهران تستثمر هذه العلاقات من أجل الإساءة إلى مصالح الدول العربية في الشرق الأوسط، إذ إنه وباستثناء المكاسب المتواضعة التي يجنيها النظام السوري فإن السياسية الخارجية الإيرانية لا تخدم أي طرف عربي بل وتحرج، حتى تلك الدول التي مازالت تحتفظ بعلاقات متوازنة مع طهران.
لا أحد يعترض في المنطقة العربية على بداية دخول العالم في مرحلة التعددية القطبية من أجل تحقيق توازن أكبر في العلاقات الدولية، والتخلص من الابتزاز الذي ما زالت تمارسه السياسة الأمريكية على الخصوم والحلفاء على حد سواء؛ بيد أن ذلك لا يمثل في حد ذاته سبباً كافياً يجعل دول الشرق الأوسط تقبل أن يتم بناء هذه التعددية القطبية على قاعدة التحالف غير الطبيعي بين موسكو وطهران. وعليه فإن تصريح مرشد الثورة الإيرانية بعد لقائه بالرئيس بوتين، يبدو غريباً وغير مستساغ بالنسبة للغالبية الساحقة من العرب، وبخاصة عندما يعلن أن بلاده وروسيا يمكنهما مواجهة عقوبات واشنطن ضدهما «وعزل» الولايات المتحدة الأمريكية. لأن الدول العربية ليست لها مصلحة في المرحلة الراهنة، في معاداة القوى الكبرى أو في عزل أمريكا ولا حتى في عزل روسيا، رغم تحالفها المستهجن مع طهران.
كما أن التقارب الجديد واللافت للنظر ما بين موسكو وأنقرة وعلى الرغم من أهميته على مستوى التوازنات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، فإنه يبدو ظرفياً ولا يمكن البناء عليه بالنظر إلى الصلات التاريخية القوية التي ما زالت تربط المؤسسة العسكرية التركية بحلف الناتو، وهو يأتي فضلاً عن ذلك في سياق موجة تحالفات روسية غير طبيعية مع الإسلام السياسي في صورته الإيرانية، ومع الإسلام السياسي الإخواني في نسخته الأردوغانية؛ ويؤثر كلا التحالفين في استقرار المنطقة، بل ويهددان على المدى المتوسط والبعيد الهوية المدنية للدول الوطنية في العالم العربي التي ما زالت تواجه صراعاً وجودياً مريراً مع العدو الصهيوني.
ويمكننا أن نخلص بناءً على ما تقدم، أنه بإمكان جميع الأطراف الدولية والإقليمية أن تدافع عن مصالحها ومن حق بعضها أن يفرض عقوبات، وأن يسعى بعضها الآخر إلى تجنب تلك العقوبات، لكنه ليس من حقها تحويل المنطقة العربية إلى رقعة شطرنج من أجل إدارة صراعاتها على حساب المصالح العليا للدول العربية. صحيح أن التحالفات التي يجري نسجها على خلفية المواجهة الحاسمة بين الولايات المتحدة وروسيا، تهدف إلى تحسين الوضع التفاوضي للقوى الكبرى المنخرطة في هذه المواجهة، ولا تمثل البتة تجسيداً لخيارات استراتيجية بعيدة المدى، لكن آثارها الجانبية تبدو مدمرة، وقد تعصف باستقرار ووحدة دول عربية كثيرة تشهد في المرحلة الراهنة ضعفاً كبيراً على مستوى مؤسسات الدولة، كما هو الوضع عليه في لبنان والعراق، اللذين يشهدان استقطاباً طائفياً ومذهبياً في منتهى الحدة والخطورة.

hzaoui63@yahoo.fr

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى