قضايا ودراسات

الغرب والجيوش العربية

الحسين الزاوي
دأبت مؤسسات البحث الكبرى ذات الصلة الوثيقة بمراكز صنع القرار في العديد من العواصم الغربية، على تركيز كل انتباهها وعنايتها على الدور الذي تلعبه الجيوش والمؤسسات الأمنية العربية في توجيه ورسم السياسات الداخلية والخارجية لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بهدف وضعها في دائرة الضوء وجعلها عرضة لتداعيات الصراع السياسي والأيديولوجي ما بين مختلف الأطراف المتنافسة على مناصب المسؤولية.
أطراف لا تكتفي في الغالب بالمعارضة في صورتها السياسية المتعارف عليها، ولكنها تبحث عن مشروعية بديلة تسمح لها بالاستحواذ على السلطة، التي ترى أنها ظلت حكراً على النخب السياسية التي قادت معركة الاستقلال وتأسيس الدولة الوطنية الحديثة خلال النصف الأول من القرن الماضي. ويأتي هذا التركيز الغربي على الجيوش العربية في مرحلة تتعرض فيها هذه المؤسسات الأمنية إلى انتقادات لاذعة وهجوم شرس من طرف قوى الإسلام السياسي، التي ترى في هذه المؤسسات القوية والمتماسكة، عقبة كأداء «تحرمها» من السيطرة على الحكم في مجتمعات لا يزال فيها المخيال الجماعي ينصاع بكل سهولة إلى الخطابات السياسية التي تسعى إلى توظيف المرجعية الدينية من أجل خدمة أجنداتها السياسية الرافضة لقيم الدولة الوطنية الحديثة.
تتحدث مراكز البحث الغربية في هذا السياق عن الدور الريادي الذي كانت تلعبه المؤسسة الأمنية في العراق قبل الاحتلال الأمريكي، وعن دور المؤسسة العسكرية في مصر والجزائر وسوريا، وعن طبيعة الدور الذي تؤديه المخابرات في أكثر من دولة عربية؛ ويتصف الطرح الذي تتبناه هذه المراكز بكثير من التهجم والتحامل على هذه المؤسسات الأمنية التي أسهمت بشكل فعال ولافت في المحافظة على استقرار وأمن الدول العربية، قبل أن يتعرض بعضها مؤخراً للاختراق وإلى محاولة التدمير من الداخل مع اندلاع ما سمي ب «الربيع العربي» بداية من سنة 2011.
ونستطيع القول إن تطورات الأحداث أسهمت في تأكيد فرضية أن استهداف المؤسسات الأمنية العربية، كان يهدف بالدرجة الأولى إلى تدمير أسس الوحدة الوطنية للدول العربية من العراق إلى ليبيا، في الوقت الذي تغافلت فيه هذه المراكز نفسها عن الدور المحوري والخطير للمؤسسات الأمنية الأخرى في المنطقة، وتحديداً عما تمارسه المؤسسة العسكرية «الإسرائيلية» من أدوار بالغة الخطورة على أمن واستقرار دول المنطقة.
وتصل معظم تلك المراكز البحثية إلى استنتاجات متهافتة تؤكد من خلالها أن تغيير أنظمة الحكم في البلدان العربية وتحقيق ما تسميه بتداول حقيقي على السلطة، يجب أن يتم بداية عبر تفكيك تلك المؤسسات الأمنية والعسكرية وإعادة تشكيلها وفق عقيدة أمنية جديدة أكثر انصياعا للمطالب السياسية الغربية. والموقف نفسه تتبناه جماعات الإسلام السياسي التي توظّف مفاهيم ومصطلحات بعيدة كل البعد عن ثقافتها ومرجعيتها الأصلية، من أجل التأكيد على ضرورة تقويض المؤسسات الأمنية العربية، حتى يصبح الطريق معبّدا أمامها لتسلم السلطة وإعادة بناء المشهد السياسي العربي بناءً على أسس جديدة، تضمن لها الانفراد بالسلطة من خلال الدمج الكامل ما بين المجالين السياسي والديني. ويتحدث هذا التيار على سبيل المثال لا الحصر عن «الثورة المضادة» بالنسبة لتطورات الأحداث في مصر وليبيا وتونس، وعن «الدولة العميقة» في مصر التي انقلبت على «شرعية» الرئيس المخلوع، وتحاول بالتالي أن تقدم نفسها على أنها تمثل رمزاً للتغيير الديمقراطي ولمشروع التداول الحقيقي على السلطة.
وليس من قبيل الصدفة، أن يتقاطع التحليل الذي تقدمه مراكز البحث الغربية إلى درجة التطابق مع التحليل الذي تتبناه بعض مراكز البحث العربية الداعمة لجماعات الإسلام السياسي والمتواجدة في دول سطع «نجمها» مؤخراً بفضل دعمها غير المشروط للإخوان المسلمين، نذكر هنا على سبيل المثال مؤتمر «الجيش والسياسة» الذي احتضنته العاصمة القطرية مع نهاية شهر سبتمبر/ أيلول من السنة الماضية، والذي تحوّلت مجمل مداخلاته إلى محاكمة استفزازية لبعض الجيوش العربية؛ وبدا واضحا أن المؤتمر، وبالرغم من محاولته تقديم استعراض فسيفسائي لتجارب الكثير من الجيوش العربية في علاقتها بالسياسة والحكم، إلا أن تركيزه على دول عربية بعينها مثل مصر والجزائر، لاسيما بعد انهيار الجيوش العربية الأخرى وفي مقدمها الجيش العراقي، جعل الكثير من المتابعين يتساءلون عن الخلفيات السياسية الحقيقية التي أطّرت أعمال هذا المؤتمر.
من الواضح بناءً على ما تقدم أن مراكز البحث الغربية ومعها مراكز البحث العربية الداعمة للإسلام السياسي، تتعامل مع مقولات الديمقراطية الفضفاضة وكأنها تمثل عملة نقدية حقيقية قابلة للدفع الفوري، بصرف النظر عن خلفياتها ومرجعياتها النظرية والتطبيقية في سياق تداولها الأصلي. وعليه فإن الغرب وبعد أن عجز عن تسويق سيناريوهات الديمقراطية المعلبة لدول كبرى وعريقة مثل روسيا والصين، اللتين أصرّتا على المحافظة على خصوصيتهما السياسية في مواجهة لعبة سياسية تدس السم في العسل وتهدف إلى تقويض مثل هذه الدول من الداخل؛ فإنه يسعى إلى استثمار أحداث الحراك الشعبي في بعض البلدان العربية بمعية بعض «ضباط الصف» الحاملين للشارات البحثية، من أجل القضاء على المؤسسات العسكرية التي كان لها الدور الأبرز في تأسيس وبناء الدول الوطنية المعاصرة في الوطن العربي، وفق أسس حداثية أقلقت وما زالت تقلق النخب العتيقة التي مازالت تحن إلى عودة مرحلة الإقطاع العثماني.

hzaoui63@yahoo.fr

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى